في ذكرى التاسع لاستقلال جنوب السودان (سياسة المضاربة وحالة اللا سلم واللا حرب)
واجوما نيوز
بقلم/ فرانسيس مايكل قوانق
“لا تزال ديمقراطياتنا العظيمة تميل إلى الاعتقاد بأن رجلاً غبياً يكون أكثر صدقا من رجل ذكي، وأن سياسيينا يستفيدون من هذا التحامل من خلال التظاهر بأنهم أكثر غباء مما جعلتهم الطبيعة”.
برتراند راسل.
ويقول مصطفى حسن “ومن حدثك عن حلم الدولة العادلة.. فلا تقل له شيئا.. اتركه للزمن.. وقل حسبي الله على كتب التاريخ”.
طموحات متأرجحة للاستقلال
في التاسع من شهر يوليو 2011، انفصل السودان الجنوبي عن شماله، ليحقق الشعب حلما طال انتظاره لسنوات طويلة، فكان املهم التحول الى دولة مزدهرة بفعل ثروات النفط التي تقدر بـ 75% من إنتاج النفط في السودان، لكن جنوب السودان عانت من صراعات داخلية منذ استقلالها، ونالت ثاني تصنيف الدول الهشة “مؤشر الدول الفاشلة”. وهي مقياس لدول ذات “مركزية السلطة” ضعيفة أو غير فعالة حتى أنها لا تملك إلا القليل من السيطرة على جزء كبير من أراضيها.
الواقع وطبيعة الصراع في جنوب السودان، معقدة لعديد من التحديات التي ترتبط بأسباب تاريخية وجذرية وراء الصراع، وهي أسباب ظلت قائمة بين قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، لعقد من الزمان، وقد خلف سلفاكير، تلك الازمات بعد وفاة جون قرنق، برؤيته عن الحركة الشعبية وهي الرؤية التي قدمت لهم حافزا لكسب ود الشعب السوداني، وبدأ الشعور بالفخر بالهوية الأفريقية، ومع إنفصال الجنوب عن الشمال وتأسيس الدولة برزت تلك الخلافات وانقسمت الحركة الشعبية إلى معسكرات، تيار “سلفاكير وزمرة من حوله” ومعسكر من يدعون إلى الإصلاح من داخل الحزب “مشار وباقان وزمرتهم”، ونظراً إلى أن هذا الصراع الحزبي لها بعدين “سياسي وإثني”، فشلت النخب السياسية والعسكرية في تسويتها، ودخلت القبلية خط الصراع وتحولت إلى صراعات معقدة للغاية.
لم يكن أمام الأطراف إلا إستخدام الجيش الشعبي، في هذه الصراعات المتعلقة بالسلطة، بدلاً من إستخدام الجيش في حفظ النظام وحماية المواطن، أصبح الجيش هي جزء الأساسي في أزمة نخب الحركة الشعبية المتشددة في شعارات السياسية والإصلاحية، لكنهم في الواقع نخب “قبلية”. وقد شكلت هذه نقطة التباعد القبلي بين القيادات، وضعفاً في بناء هوية وطنية، بسبب الفشل في تحويل الجيش الشعبي إلى جيش قومي، فكل المجموعة القبلية كانت تمتلك مليشيات خاصة بها تحمي مصالحها الإثنية وحاولت الحكومة في إرضاء تلك المجموعات لحماية مصالحها في السلطة شملت توزيع السلاح في أيدي المدنيين في العديد من المدن وخلقت ذلك عمليات القتل والسرقة ونهب الماشية واصبح أمن بعض القبائل مهددة.
الصراع مؤجلة فكانت الحرب
إن صراع داخل الحركة الشعبية في كثير من الأحوال هي صراع مؤجلة، بداً من الإختلاف حول تسمية إسم الحركة في الثمانينات ورؤية الحركة الجديدة حيث وقعت صدامات بين جونق قرنق، وكل من أكوت أتيم وصموئيل قاي توت، ووليم عبدالله شول، فقد كان مجموعة اكوت ترى أن تستمر الحركة امتدادا لـ ” أنيانيا ” بينما كان لقرنق ومجموعته أن يتم تسمية الحركة على منفستو جديد التي تدعو الى تحرير السودان وتحقيق العدالة، وانتهت الامر لصالح قرنق بدعم من النظام الإثيوبي، ولم تستمر المجموعة إلى أن جاء إنشقاق ناصر بقيادة “مشار واكول”، ودخل قيادات الحركة الجديدة في معركة تصفية الحسابات فيما بينهم شملت ذلك إغتيالات، الى ان وصلت الحركة واقتربت من التوقيع على اتفاق “نيفاشا 2005” لتطفو من جديد صراع المكتوم بين “قرنق وسلفاكير” في العام 2004، وهي الصراع الذي انتهت بوفاة قرنق في حادث تحطم المروحية. وأصبح سلفاكير رئيسا للحركة الشعبية ورئيس حكومة الجنوب بموجب اتفاق نيفاشا. ومنذ تلك الوقت عادات الصراعات داخل الحركة من الجديد إلى أن انفصل الجنوب عن الشمال وتنطبق المقولة على شعب جنوب السودان: “سخرية القدر أن تتدهور أحوال الناس بعد ثورة شعبية و تتحسن أحوال المسئولين عن النظام” عز الدين شكري. ومن خلال هذا السرد يظهر أن رفاق النضال لم يكونوا موحدين في الرؤية وأهداف الثورة من البداية.
سياسة المضاربة وأزمة بناء الدولة
تحل الذكرى التاسع لاستقلال جنوب السودان، في وقت تواجه فيه الدولة تحديات تنفيذ اتفاقية تسوية النزاع المُنشطة كواحد من تحديات “بناء الدولة” الذي دخل في حرب في اقل من سنتين بعد الانفصال مباشرة حرب “سياسي، قبلي” غايتها قد تبدوا تصفية حسابات رفاق “الثورة”، لكن في هذه المرة ليست في الغابة لكنها في المدن وهذا ما صعب المهمة عليهم، نتيجة لقضايا كانت متراكمة ويبدو في الناظر أنها كانت مؤجلة لوقت لاحق، تسعة سنوات مرت وعبرت بكل ويلاتها من معاناة الحرب والجوع والتشرد والتعذيب وحطمت طموحات أكثر من نصف قرن لشعب عاشت المعاناة بكل تجاربها في الحياة.
بعد انفصال الجنوب السودان واجهت القادة مشكلة “بناء الدولة” والتي تمثلت في عدم تخطي “النخب” على الانقسامات القبلية بين المجتمعات، فلم يكن النخب الحاكمة مستعدة لمعالجة تلك المشاكل التي أدت الى إشعال فتيلة نار الحرب من الجديد من داخل اركان “حزب الحركة الشعبية”، على حساب انتماءاتهم القبلية متجاهلين التركيز على بناء هوية موحدة لبناء دولة جنوب السودان، فبدلا من توسيع التحالفات السياسية وتحديد مؤسسات الدولة بغض النظر من الذي “يحكم” والتفكير في هوية سياسية جامع، انشغل الجميع بتعميق الروابط القبلية السياسية بين “المواطنين والحزب” وتكوين مليشيات إثنية، وإغراق الدولة في انقسامات “قبلية”. وتحطمت أمال جيل كان مستعد لبناء الدولة في أقل من ربع قرن.
تصوير الأحداث السياسية في جنوب السودان في الوقت الحالي يتم بطرق مختلفة، فهناك من يصورون الحرب انها صراع سياسي بين قيادات الحركة الشعبية وهناك من يعتبرونه صراعا إثنيا سياسيا على السلطة والحفاظ على مصالح القبيلة من مكتسبات الدولة من الثروة. وهذا لا يظهر الا بنظرة عميقة الى طبيعة التكوين والنشاء والتحالفات السياسية للحركات السياسية والعسكرية في مواجهة قضية الجنوب قبل إستقلال السودان.
علاقة شعارات الحركة والدولة
في محاولة للإجابة على هذا سؤال “علاقة شعارات الحركة والدولة” والذي ترتبط ارتباطا مباشر بفشلهم تأسيس الدولة على يد نخب ثورية “قادة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان”، يحتاج لتطرق إلى تاريخ نشأ الحركة وتأسيسه والتحديات التي واجهت قيامها من المشاكل التي مرت بها الحركة إلى أن وصلت إلى مرحلة إنفصال الدولة. حيث نجد أن صراعات الحركة لم تنتهي بتوقيع إتفاقيات سلمية لحل مشاكلها لكنها إنتهت بالانقسامات وتصفية الحسابات بالعنف، فكل هذه التراكمات يظهر بعض من الحقائق عن حقيقة الصراع داخل الحركة الشعبية قبل وبعد رحيل جون قرنق وتولي سلفاكير زمام الأمور، وهذا يؤكد ايضا أن الصراع الداخلي بدأت مع التاسيس ولم ينتهي “سياسيا وفكريا و إثنيا” وضربت أركان الحركة من الداخل بسبب ضعف القيادة.
فإن الجروح القديمة من الخلافات “السياسية والإثنية”، منذ مراحل تأسيس الحركة، والتي انفجرت مع تأسيس الدولة من الإهانة والسخرية بين النخب السياسية و العسكرية، وعمليات التعذيب وتجريد الشعب من حقوقه بسبب انتماءاتهم القبلية والسياسية والفكرية، شكل نقطة محورية لأزمات معضلة “بناء الأمة” وهي ما فشلت فيه النخب في معالجتها منذ البداية لتشكيل هوية جامع لمواطن السودان الجنوبي. ولم يكن انتماءاتهم او تقاليدهم الدينية او لغتهم او عائلاتهم كافية لتبرير غاية التفكير حول “هوية الدولة” بل تعمقت الأزمة أكثر واندلعت الحرب في عام 2013.
وفي ظل النسيج الإجتماعي المتدهور الذي خلفتها الحرب، إذا تخيلنا أن رجل من قبيلة “كاشيبو” في شرق الإستوائية. او قل رجلا من قبيلة “كوما” بأعالى النيل، وقف في قلب العاصمة جوبا، وصرخ بصوت عالي “أنا سوداني جنوبي” او رجلاً من دينكا بحر العزال وقف وصرخ “أنا سوداني جنوبي” أو لنقل أن شلكاوي من فشودة وقف في مناطق “لو نوير” وصرخ “انا سوداني جنوبي” كل هذه الأصوات هي أصوات فخورة بالإنتماء للوطن وهويته لكن ماذا تعتقد ان يكون رد فعل السكان الأصلين في المنطقة حتماً السؤال المحوري “من أي قبيلة هذا الشخص”، وهذا نتيجة لتدهور النسيج الإجتماعي بسبب الصراعات الإثنية المدعوم من قبل القادة السياسيين.
في جميع الحالات السابقة نجد أن القبلية اصبح عائق أساسي في قبول الآخر، وإذا أخذنا مثلا أخر حاليا في بحر الغزال الصراع الدائر بين “عشيرتي أفوك وأقوك” فكلهم من قبائل الدينكا، يتحدثون لغة نفسها ويتفاهمون فيما بينهم لكن القتال مستمرة فيما بينهم وشللت النسيج الاجتماعي وبالتالي فإن انتماءاتهم الإثنية في حياة كل شخص بينهم لا تعبر عن حقيقتهم في ظل دولة جنوب السودان، فعلى ماذا يحارب هؤلاء العشائر؟.
هذا يقودنا إلى أن إشكالية المعرفة وفشل بناء الأمة، أزمة حقيقة لا مفر منها، فنجد قبيلة تحارب نفسها وقبيلة تحارب آخر، إما بسبب مشاكل الأرض أو قضايا تاريخية من جرائم القتل لم يتم معالجتها وتسويتها بطريقة سلمية.
وبالنظر إلى أن الصراع داخل حزب الحركة الشعبية التي تحكم البلاد منذ العام 2005 بموجب اتفاق السلام الشامل وانفرد بها بعد الانفصال، عجزت في تغيير الواقع و انخرطت في صراعات داخلية، وتوضح أن الحركة نفسها كانت كتلة من تيارات “إثنية” تنتظر كل مجموعة فرصته في التحكم بزمام الأمور بطريقته الخاصة “إثنيا وسياسيا”، فكل قيادات الحركة هي من مكونات قبائل السودان، لكن حالة التمييز الداخلي لهذه الانتماءات أدت بدورها الى نشوب صراعات لا يمكن اغمادها دون أن تدرك تلك القيادات خطورتها، حيث أن حالة عضوية شخص من قبيلة “أزاندي”، في الحركة يختلف تماما عن حالة عضوية شخص من قبائل “فراتيت” وعضوية شخص من قبيلة “أشولي” يختلف عن عضوية “الدينكا” وعضوية “دينكا اويل” يختلف عن “دينكا بور”، و “نوير ناصر يختلف عن نوير بانتيو” وهكذا، برغم أن القاسم المشترك الذي يجمع تلك الأعضاء في منظومة الحركة الشعبية هو “رؤية تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان”، وحتى وان كانوا يتحدثون بلغة القومية في الحزب، فإن لكل واحد فيهم وضعية خاصة به حسب انتمائه “الإثني”، كل هذه التصنيفات فأقمت أزمة الحركة، ووجد كل مجموعة إثنية نفسها اما مضطهدة أو متحكمة بزمام الامور او مستفيدة من الصراع بين الأطراف الأخرى.
كل هذه الإشكاليات وضعت جنوب السودان في موقع الحرج وفشلت النخب في بناء الدولة منذ وحلة الإستقلال، فكونك من القبيلة الفلانية ومنظم سياسيا يتم وضع خصوصية شديدة الحساسية وخاصة لك في حزب ينتمي إليه الشخص بإرادة او قل بشعارات التي كانت تنادي بتحرير السودان والمساواة وغيرها. وحتى الأحزاب السياسية ومليشيات المسلحة فقد صنفت على أسس قبلية.
قد يعترض الناس على ما هو وارد في هذا المقال بحكم خصوصيتها وحساسية “إثنية” خوفا من الاعتراف بالحقيقة، لكن دعونا نقول أن قياس الهوية بالميلاد لا تعني شيئا على الإطلاق فكونك من قبيلة لا توكا مولود في فرنسا لا تعني انك فرنسيا لكن اصولك الحقيقي يظل”لاتوكا” وستظل لاتوكا إلى ان تموت، وكذلك فإن الجنوب السودان بقبائلهم المختلفة اين ما كانوا هم جنوبيين بهويتهم ولا يمكن احتكار الهوية من قبل مجموعة او اقلية معينة لمنفع نخب سياسية تستفيد من التخلف الإجتماعي السياسي.
لنجد هوية مشتركة. أين نحن وأين الدولة؟
لا يمكن تغيير هوية دينكاوية لتصبح بارياوية أو المابان ليصبح نويرواي وينطبق الأمر على جميع القبائل، لكن لنجد هوية مشتركة تجمعنا، بدلا من عمليات القتال التي تستهدف الهوية “اللغة، الأرض” وهي قضايا ساهم فيه النخب السياسية والعسكرية في تأجيجها نموذج ما يحدث في جونقلي بين المجتمعات المحلية “الدينكا، ولو نوير، ومورلي و انواك”.
الحقيقة هو أن الحركة الشعبية لم يكن لها تصور لحياة المواطن السوداني الجنوبي ما بعد الإنفصال في كيفية بناء دولة بها انتماءات قبلية متعددة، والتي تشكل هوية الدولة، فقد فشلوا منذ صرخة الاولى من الاستغلال، فبدلا من استغلال العامل التاريخي التي تجمع تلك الانتماءات لبناء دولة المواطنة عملوا على زرع الفتن بين تلك القبائل وتشتيتهم.
فالحرب الذي اندلع في العام 2013، كشفت حقيقة الصراع الداخلي بين النخب السياسية والعسكرية “هوية الثورة المُزيفة” وتحول الأبطال إلى منتهكين للحقوق بممارسة جميع أشكال الحكومات الديكتاتورية والحركات الثورية الاستبدادية. ولا شك ان كتاباتي هذا يعتبرها البعض انها من منطلق ومفهوم شخص مضطرب عقلياً لتضارب ذلك بمصالحهم الذاتية، لكن لنقل ان الكثيرون غادروا وهاجروا الوطن لأسباب متعددة يتصورها البعض بمفهوم منفرد، نعم غادروا مسقط رأسهم مجبرين عليه تركوا من خلفهم “ارواح” هائمة اموات او احياء تعاني الجوع والمرض، لأنهم فشلوا في حمايتهم وفشلت الحكومة في توفير الحماية أيضاً، لكن مشاعر تلك الأشخاص تجاء الوطن تظل غامضة لأنهم لا يرفعون أن الحياة أفضل لهم وسط اهلهم في كل الأحوال، لكن في نفس الوقت يخافون من مواجهة المستقبل المجهول.
يرى مصطفى حجازي “أن العنف والقسوة الذين يمارسها أدوات السلطة حين ملاحقة بعض المخالفين في امور صغيرة وكبيرة، امر لا تمد بصلة إلى ما تفرضه القوانين من علاقات وأساليب التعامل، وان في ذلك شيئا واضحا و تفريغا للعدوانية المتراكمة نتيجة القهر المزمن الذي أصاب هؤلاء قبل يحتلوا مناصبهم كونهم ادوات قمعية في السلطة”.
حالة اللا سلم واللا حرب
فترة حكم الحركة الشعبية، مارست قياداتها السياسية والعسكرية سياسة السلوك القديم التي تعطي كف العادات والتقاليد ميزان الصوت الأعلى بخضوع مجتمعات إلى نفوذ سياسية وعسكري، وهو سلوك اجتماعي بدائي وهي أمر ما زال شائع بين جميع القبائل في جنوب السودان لكن هذا السلوك تسبب بدوره في تصعيد الخلافات من داخل القبيلة ومن داخل الحزب نفسه واستفادة منه القادة الأخرين. وانشغل به النخب لتحقيق مصالح قبائلهم اكثر من مصالحة الدولة في نظام شمولي ترضي القبائل أكثر من السلطة السياسية. ويقول فرانسيس فوكوياما “ان النظام الشمولي لا يحتاج الى إضفاء الشرعية على سلطته من كل فئات المجتمع ونقص الشرعية لنظام لا يتخلق ازمة في داخله ولكن حال قيام النظام بإلحاق الضرر بمصالح النخب المرتبطة به، خاصة تلك التي تحتكر أجهزة القمع الشرطة والقوات المسلحة، والحزب الحاكم، يحدث خلل في شرعية الداخلية أي أن ازمة شرعية النظام الشمولي تعني ازمة داخل نخب النظام ذاته”.
وبالنظر الى واقع الصراع الدائر، نجد ان استمرار حال اللاسلم واللاحرب، استفادة منه قادة الحركة الشعبية، من تقاسم السلطة بموجب اتفاقيات، يستند الى سيناريوهات تقارب النفوذ فكل من مشار وسلفاكير، يتمتعان بنفوذ قبيلة أكثر من أي قيادات سياسية آخرى في جنوب السودان وهي واحد من عوامل الفشل الكبير في قيادة جنوب السودان، ويكون إستخدام العنف هو الغاية للحفاظ على السلطة والاتفاقيات هدف لتحقيق المصالح.
بعد هذه السنوات أزمة البداية لا يزال قائمة
إن الخطأ التاريخي الفادح في تقييم الصراع الحالي في السودان الجنوب من وجهة نظري هو استناده على التنافس السياسي بين الأحزاب السياسية أو بين كير ومعارضيه في الحزب، في مجتمع متخلف تنظيماً تم استخدامه من قبل القادة لحماية مصالحهم الذاتية “السلطة”. وبرغم اعترافاتهم بالخطأ والفشل يظل حالة اللاسلم مستمرة.
ولم يكن اندلاع القتال في عام 2013، إلا فرصة لإضعاف دور المجتمع المدني والمفكرين والسياسين في المساهمة في بناء الدولة، حيث تمت تقليص دورهم بخلق بيئة غير مستقرة وعدم وعي وسط “مجتمع قبلي” تحمي مصالح النخب السياسية والعسكرية بخضوع التام إليها، وكما ذكرت سابقاً من عمليات النزوح والهجرة هي بفعل تلك العمليات من التطهير الفكري، فنتج عنه حالات جعل العديد من المواطنين يختارون ما لم يكن في حسبانهم.
قد يعتقد البعض ان اتفاقيات السلام بين الأطراف المتنازعة في جنوب السودان، يمكن ان يكون حلا لمشاكل الجنوب، وهذا عكس تماما لطبيعة الصراع، فمعظم النقاشات السياسية، غالباً تكتفي على مستوى الشعارات أكثر من تحقيق المصالحة العامة سياسياً لبناء الدولة، وتنتهي بمعالجة حالات فقدان السلطة للنخب السياسية والعسكرية “بالهدنة والترضية” بدلا من ان يتم معالجة أزمات الدولة بصورة تاريخية، فالجرح الاولى لا يزال صامتة ولم يتم معالجته لسنوات طويلة.
وبالنظر الى الاتفاقيات التي تتم في الوقت الحالي “اتفاقية تسوية النزاع المنشطة” ليست وإلا ممارسة لضغوطات خارجية ولا تعبر عن إرادة وطنية سياسية “المفقودة”، لذا نجد أن تلك الاتفاقيات تواجه صعوبات في التنفيذ. لانها دوما تتعلق بتقاسم السلطة والثروة والترتيبات الامنية غير المدروسة وتظل العقبة كما هي. وتفشل الفصل في القضايا الأساسية التي تبحث عن هوية وطنية والفصل في قضايا ترسيم الحدود ونزح السلاح من أيدي المدنيين وتحسين المعيشة. فكل اتفاق حتى الآن تعكس عدم الثقة العميقة بين الأطراف لأسباب تاريخية “أسباب تؤدي الى انهيار الاتفاقيات”.
الخلاصة
هو أن تأسيس دولة جنوب السودان والذي نحتفل بـ استقلاله سنويا لم يكن خطأ تاريخي في حق شعب جنوب السودان، الذي اختار الانفصال عن الشمال في عام 2011، لكن الوصم والعار الأكبر تقع على عاتق قيادات الحركة الشعبية وأسست دولة متناقضة مع فلسفتها التحررية، وقامت باعادة سيناريو التأسيس من حرب “العصابات” الى حرب المدن بتصفية حسابات الرفاق، دفعت الشعب ثمنا لذلك الحرب. ويظل السؤال القائم للمواطن في كل ذكرى عيد الاستقلال، أين نحن وأين دولة الحلم وشعارات الرفاهية العدالة وحقوق الإنسان؟.
المرحلة المقبلة في جنوب السودان يحتاج الى تنظيم المُجتمع على أسس اجتماعية وسياسية لتطوير البلاد، وبدلا من تركيز السلطة على مركزية الحكم، وتحكم قبضتها على أيدي اقلية مستفيدة على حساب مجتمعاتهم.
ويمكن القول ايضا ان النظام السياسي في جنوب السودان منذ العام 2005 الحقت بالضرر على جميع المجتمعات وعملت على تفكيك وتشتيت التماسك الإجتماعي وإضعاف النشاط السياسي وتدمير الإقتصادي الإجتماعي لأقل الفئات التي كانت تعتمد في حياتها على الزراعة وتحولت المجتمعات الزراعية إلى أفقر المجتمعات، وبرغم من ولاءات المناطقية “الإثنية” و جهوية اتباع القيادات السياسية لم يستفيد تلك المجتمعات من ثروات المركز.
__________________________________________________________________________________
فرانسيس مايكل قوانق – صحفي وكاتب من جنوب السودان