المعتقلين السابقين والتماهي السياسي ” كُراع جوة وكُراع برة”
بقلم: شوكير ياد
من الظواهر السياسية اللافتة التي عمقتها الأزمة السياسية في جنوب السودان، ظاهرة الهرولة نحو البحث عن السلطة بطرق وأساليب تتنافى مع القيم الاخلاقية الحاكمة لادبيات السياسة المعتادة. فقد سيطر هذا الفكر الانتهازي على أدبيات السياسة الجنوبسودانية بصورة غريبة وشاذة، وأضحت جزءا لا يتجزأ من الفكر السياسي الجنوبي.
فنجد ان السياسي الجنوبي لا يجد غضاضة في ان يمارس الانتهازية من أجل الحصول على مكاسب سياسية ذاتية حتى وان كان الأمر يتنافى مع مبادئه وأخلاقه. وقد لا يشعر بأي نوع من الحياء اوالحرج السياسي عندما يمارس مهنة المداهنة و التطبيل او “التعاريص” على الطريقة المصرية ؛ وذلك إعتقادا منه بأنه جزء أساس من الممارسة السياسية. فما نشهده في الوقت الراهن من هجرات عكسية وإنشقاقات هنا وهناك، ليس سوى تجسيدا لهذه الظاهرة الشاذة التي عمت البلاد. حيث تعد هذه الظاهرة احد أبرز أسباب حالة عدم الإستقرار السياسي التي تعيشها البلاد، التي يتم فيها تغليب المصلحة الذاتية على المصلحة القومية، والتي تغيب فيها الرؤى السياسية من أجل بناء الدولة. وما يمكن قوله في هذا السياق ، هو عدم وجود أي منهجية سياسية تحكم الصراع السياسي الحالي سوى البحث عن المصلحة الفردية اينما وُجِدت. وعندما يفقد السياسي الجنوبي مصلحته الشخصية في المعسكر الذي ينتمي له ، يتحول مباشرة الى المعسكر الآخر دون أي تردد منه. من هنا يأتي عدم الاستقرار السياسي، حيث تخلق هذه الممارسات أزمات سياسية جديدة ومعطيات جديدة تفرض نفسها على الواقع، وأدل على ذلك بأزمة مشارـ تعبان ، والتي قادت في نهاية المطاف الى إطالة أمد الحرب بسبب إنسلاخ الأخير، والذي أفرغ اتفاقية التسوية السلمية من مضمونها بسبب نزعاته السلطوية.
ولكن من الحالات الشاذة التي لفتت نظري مؤخرا، والتي إستوقفتني كثيرا ، حالة الجسم السياسي الهلامي المُسمى “المعتقلين السياسيين”، والذي إنتهج نهجاً سياسيا إنتهازيا صارخا تجاه الازمة السياسية في البلاد؛ وذلك من خلال التماهي “التلون” وفقا لمصالحها على الارض، دون ان تطرح رؤية واضحة للخروج من المأزق السياسي الذي حل بالبلاد. وقد تكون هذا الجسم السياسي بالصدفة عقب احداث 15ديسمبر 2013، بعد ان تم إعتقال مجموعة من السياسيين، الذين كانوا يشغلون مواقع دستورية في الدولة، بتهم تتعلق بتدبير محاولة لإسقاط النظام السياسي في جنوب السودان. ثم أصبحت تطلق على نفسها مجموعة المعتقلين السياسيين، بعد ان تم اطلاق سراحهم بعد عدة جلسات خضعوا فيها للمحاكمة . وكان يتكون ذلك الجسم السياسي من المجموعة التالية : باقان اموم، دينق الور، جون لوك، أوياي دينق أجاك، مجاك أقوت، قيير شونق، مدوت بيار، سرينو هيتنق، إزيكيل لول، شول تونق ماياي.
ويلاحظ منذ ظهورهذا الجسم السياسي بعد أحداث ديسمبر2015، عدم إستقراره على رؤية سياسية واحدة. وقد شهد أداؤه العديد من التحولات السياسية اللافتة، والتي كان لها بالغ الأثر في مسار الأزمة السياسية التي مرت بها جنوب السودان. فمنذ الوهلة الاولى انضم احد اعضاء المجموعة ـ السفير إزيكيل لول ـ الى المعارضة المسلحة بقيادة مشار. ثم شاركت المجموعة لاحقا ككتلة واحدة ، بقيادة باقان اموم في مفاوضات أروشا التنزانية لتوحيد أجنحة الحركة الشعبية، كخطوة اولى في اتجاه حل أزمة 2013. ولكن في خطوة إستباقية مفاجئة توصلت مجموعة “المعتقلين السياسين” الى تفاهمات سياسية مع الحكومة، تم بموجبها إعادة الامين العام باقان اموم الى منصبه في الحركة الشعبية، وعودة المجموعة الى حضن الحكومة . ولكن عندما تم استئناف المفاوضات بين الحكومة والاطراف السياسية الاخرى في اديس ابابا عادت مجموعة المعتقليين السابقين لتتصدرالواجهة من جديد؛ وذلك عندما إختارت بأن تشارك في المفاوضات ككتلة سياسية منفصلة بالرغم من اندماجها مع الحكومة في صفقة إعادة باقان اموم الى منصبه “أميناً عاماً لحزب الحركة الشعبية”. وهو الأمر الذي اثار حفيظة الحكومة في ذلك الوقت، بسبب إزدواجية رؤى المعتقليين السياسيين، والتي كانت ترى الحكومة ـ من وجهة نظرها ـ بأنها أضحت جزء منها، وهو الأمر الذي يجب أن يقود بطبيعة الحال الى تطابق واتساق رؤى الطرفين في محادثات أديس ابابا. ومثلت هذه الواقعة أبرز تجليات الإنتهازية السياسية في فكر مجموعة المعتقلين السياسيين في ذلك الوقت، وان دل على شيء فانما كان يدل على حجم الاطماع السياسية التي كانوا يتسترون خلفها. وقد نجحت المجموعة بالفعل في تحقيق الكثيرمن المكاسب السياسية خلال مراحل الأزمة السياسية ـ حتى وقتنا الراهن ـ كان اهمها على الاطلاق ، المكاسب السياسية والتي تحصلت عليها بموجب اتفاقية التسوية السلمية لحل الازمة في جنوب السودان في أغسطس 2015. والتي منحت المجموعة نسبة 7%من كعكة السلطة. وهي نسبة كبيرة مقارنة بنفس النسبة التي مُنحت لتحالف الاحزاب السياسية المعارضة بقيادة د/ لام أكول آنذاك. وأتاحت هذه النسبة لمجموعة المعتقلين السابقين، نسبة مشاركة في البرلمان القومي ، وعلى مستوى الحكومات الولائية بجانب حقيبتين وزاريتين، ونائب وزير. ولكن على الرغم من حجم المكاسب السياسية التي حققتها المجموعة خلال حكومة الوحدة الوطنية، الا أنها عانت التشرذم والإذلال السياسي عقب احداث 2016 المأساوية وإنهيار اتفاقية التسوية 2015. حيث انضم شول تونق ماياي (حاكم سابق لولاية البحيرات الى الحكومة) ، وإتجه قيير شونق الى التفرغ لاعماله الخاصة في كمبالا، وانسحب الجنرال اوياي دينق من المجموعة. وبقى سرينو هيتنق وباقان اموم في الخارج ، بينما شارك، جون لوك، ودينق الور ، ومدوت بيار في الحكومة. حيث تماهى الأول في الحكومة ، وصار قليل الاحتكاك مع المجموعة الا في نطاق محدود.
بيد أن الأقدار كانت تقف الى جانب مجموعة المعتقليين السابقين في معظم الاحيان، فقد عادوا الى الاضواء مرة اخرى مع بدء مفاوضات إعادة تنشيط الاتفاقية؛ بعد ان فقدت المجموعة معظم حقائبها الوزارية في الداخل، ولم يتبقَ سوى جون لوك ومدوت بيار في منصبيهما (وزير/ الاخير برلماني). وجاءت العودة هذه المرة، عبر مظلة تحالف المجموعات والحركات السياسية المعارضة المعروفة بـ “سوا”. وبدلا من الإكتفاء بالانضمام الى تحالف “سوا” أقدمت على فعل سياسي آخر، تمثل في فتح قنوات اتصال مع الحكومة في الداخل، من أجل الانضمام اليها فيما عرف بعملية توحيد أجنحة الحركة الشعبية. حيث توصلت في نهاية المطاف الى تفاهمات سياسية بشأن اندماجها مع الحكومة ، وهو ما حدث بالفعل.
من خلال تتبع مسار هذه المجموعة من السياق اعلاه نجد انها دأبت على التماهي السياسي في الكثير من المواقف والأزمات السياسية والتي كان يتطلب منها إبداء رأي سياسي واضح تجاه تلك القضايا بحكم انها كانت الأدرى بخفايا وأزمات الحركة الشعبية تاريخيا وطرق حلها. ولكن على النقيض تماما، فقد إختارت لنفسها وضعية مميزة تحقق من خلالها أهدافها ومطامعها السياسية. وممارسة أسلوب الانتقال من معسكر لاخر دون أي رؤية سياسية تحكم توجهها سوى المصلحة الذاتية.
وهنا نتساءل في هذا السياق، الى أي المجموعات ينتمي مجموعة المعتقليين السياسيين في الوقت الراهن، تحالف “سوا” ام “الحكومة”..؟
وهي نقطة بالغة الأهمية يجب على القوى السياسية وكافة المعنيين باتفاقية السلام المنشطة معرفتها وتحديدها قبل الشروع في تكوين حكومة الوحدة الوطنية. خاصة وان التحالف نفسه يعاني من تصدعات داخلية هذه الايام مع إقتراب فترة تكوين الحكومة الانتقالية.
وقد نتساءل ايضا من تبقى من المجموعة بعد استقالة باقان اموم، وتماهي العضو مجاك اقوت مع الحكومة، وصار من “الكواكب” المدافعين عن النظام بعد ان كان من أكثر الناقمين على الحكومة، خاصة الرئيس كير. وتمثل جولة الرئيس الى ولايات بحر الغزال الكبرى مؤخرا، خير برهان على التماهي السياسي لعضو المعتقليين السابقين ، مجاك أقوت ، والذي تحولت تغريداته في مواقع التواصل الاجتماعي الى مدح النظام الذي كان ناقما عليه. في تقديري البسيط لم يتبقَ أحد خارج الحكومة سوى ،باقان اموم ، سرينو هيتنق ، أوياي دينق أجاك، اما البقية فقد إنصهرت في الحكومة تماما، بخلاف رئيس المجموعة الحالي دينق الور، والذي يمارس الشذوذ السياسي، بإنتهاجه أسلوب الهرولة السياسية بالانتقال هنا وهناك “كُراع جوة وكُراع برة، أي مرة في حضن الحكومة ومرة في احضان التحالف، وهو كمن إمتهن ” العهر السياسي” بُغية تحقيق مصالح ذاتية. وتلك الوضعية الشاذة لرئيس المعتقلين السياسيين الحالي تعكس حجم الانتهازية التي تمارسها القيادات السياسية للبلاد. ولكن ربما فات على الجميع بأن السياسة أخلاق ومباديء، قبل كل شيء، وان غابت المباديء والاخلاق ، يفقد الانسان قيمته الانسانية والسياسية معا . وإنطلاقا من هذا ، كان يتوجب على مجموعة المعتقلين السياسيين الإنسحاب من التحالف حفظا لماء وجهها إذا ما تبقى من ماء الوجه شيئا. وربما فطنت الجهة الراعية للاتفاقية المنشطة بشأن مجموعة المعتقلين السياسيين، والتي أعطيت أكثر من حجمها خلال اتفاقية التسوية السلمية في 2015 على الرغم من قلة مردودها وتأثيرها السياسي على الأرض؛ الأمر الذي قاد الى التغاضي وتجاهل الوضعية المميزة لمجموعة المعتقلين السياسيين في الاتفاق الحالي، إذ لم تمنح الاتفاقية المنشطة أي إمتيازات كبيرة للمجموعة، ومن هنا جاءت مرحلة الهرولة نحو البحث عن المصالح الفردية للمجموعة في كل الاتجاهات.
وأخيرا ، نأمل ان تجد صراعات تحالف “سوا” طريقها للحل وان تضع مصالحها الخاصة جانبا. وأن تختار ممثليها في الحكومة الانتقالية بعناية والإستناد الى معايير “موضوعية وديمقراطية” . فمن الممكن أن تقوض هذه الصراعات، العملية السلمية برمتها خاصة في ظل هشاشة اتفاقية السلام المنشطة حاليا والتي يمكن أن تعيد أطراف الصراع الى المربع الأول.