دلالات ومآلات تقرير سنتري

تعيش جنوب السودان حالة من التفاؤل والترقب الحذر هذه الأيام ، عقب الزيارة الأخيرة لرئيس الحركة الشعبية في المعارضة لجوبا ؛ والتي ألقت بحجر في بركة الإتفاقية الساكنة. حيث تباينت ردود الأفعال حول الزيارة التي وصفت بأنها حققت ولو بالقدر اليسير الهدف المنشود منه، والذي تمثل في تقريب وجهات النظر حول الإشكاليات التي تعيق تنفيذ بنود ِالإتفاق الأساسية، والتي تتمثل في بند الترتيبات الأمنية، ومعضلة الولايات. بينما يرى البعض بأن الزيارة لم تحقق الهدف المنشود منه، بدليل التصريح الأخير لرئيس البلاد ، بشأن تشكيل الحكومة الإنتقالية في موعده المحدد، إذا ما رفض مشار المجيء الى جوبا قبل إنتهاء الترتيبات الأمنية. والذي يفهم ما بين سطور هذا التصريح، هي أن النوايا من أجل رفع المعاناة عن كاهل الشعب الجنوبي لم تخلص بعد، وان هناك الكثير مما يجري تحت المياهِ الآسنة بشأن السلام العالق بجنوب السودان.
وقد تزامن هذا الموقف المفاجيء لرئيس البلاد مع ظهور تقرير سنتري الذي نشر مؤخرا، والذي كشف عن حجم الفساد الذي تعيشه جنوب السودان، عقب إندلاع الحرب في العام 2013؛ بسبب إستثماراباطرة الحرب للأوضاع السائدة في التربح وكسب الأموال، وهو ذات الأمر الذي ساهم في إطالة أمد الحرب في جنوب السودان حتى وقتنا الراهن. حيث ظهرت مجموعة كبيرة من المستفيدين من هذه الحرب ، والتي تتمسك بإلإبقاء على الأوضاع السائدة من أجل مصالحهم الذاتية. ومن المفارقات اللافتة في الأمر ، ان تلك المجموعة المذكورة، تنحدر من مناطق جغرافية متفرقة ، أي من مجموعات إثنية مختلفة جمعتهم المصلحة المشتركة في تكوين جبهة داخلية قوية تقف حائلا امام أي محاولة لتنفيذ عملية السلام الجارية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد في مناطق النوير ، مجموعة كبيرة من السياسيين، والذين تنسجم مصالحهم مع إبقاء الأوضاع الراهنة كما هي، حيث نجحت في فرض معطياتها على الواقع، بحيث أضحت جزءا لا يتجزأ من أزمة تنفيذ الاتفاقية المنشطة، ويساندها في ذلك بعض المجموعات العسكرية الموالية لها. ويمثل هذه المجموعة، الجنرال تعبان دينق، والمستشار الرئاسي توت كيو، وحاكم ولاية ليج الشمالية ، جوزيف منجتويل . بينما نجد في مجموعة الإستوائيين بعض القيادات السياسية التي ينطبق عليها ذات الوصف، حيث نأت بنفسها بعيدا عن الحراك السياسي الذي يقوده الإستوائيين؛ وذلك من أجل مصالحهم الذاتية، ويمثل هذه المجموعة كل من لوبونق، وايقا ، موبوتو . اما في مناطق المورلي فنجد أن الفريق ياوياو الذي نجح الرئيس كير في تحييده في حرب 2013، من خلال اتفاقية تم بموجبها تحويل مقاطعة البيبور الى إدارية ، وإستيعاب قواته في الجيش الحكومي، أصبح أحد أبرز جنرالات الحرب الذين باتو يستثمرون في الأزمة الحالية، بدليل ظهور إسمه في تقرير سنتري الأخير. ونجد كذلك بعض السياسيين من مناطق الشلك أمثال انيوتي وبول شان ، ومناطق غرب بحر الغزال، والذين يسيرون على نفس الموجة.
وإذا كانت الأمور في الداخل تسير على هذا النسق، فإن الأمر على مستوى الإقليم لا يختلف كثيرا عما يحدث في الداخل. فقد كشف تقرير سنتري الأخير، حجم الإستثمارات التي تشترك فيها بعض دول الإقليم مع بعض الأفراد النافذين في جنوب السودان، من خلال الإستفادة والإستثمار من الأوضاع الحالية التي خلفتها الحرب . الأمر الذي يضعها في وضعية الدول المناوئة لأي عملية سلمية يمكن ان تحدث في الوقت الحالي او المستقبل القريب. ولا ننسى هنا أيضا دور التنين والعملاق الآسيوي، والذي يعتبر العائق الأبرز في تنفيذ السلام الحالي، والذي دائما ما تربط عملية السلام بمصالحها في جنوب السودان.
إذن في ظل هذه الوضعية المعقدة والمتشابكة يصبح من الصعوبة بمكان تنفيذ اتفاقية السلام المنشطة على النحو الذي يحقق الإستقرار السياسي في جنوب السودان؛ وذلك بسبب تشابك وإلتقاء المصالح في الداخل والخارج.
وقد نتساءل في هذا السياق، إذن ما المغزى والدلالات من نشر هذا التقرير في هذا التوقيت، في ظل تلك المصالح المتشابكة..؟!
وهل للأمر علاقة بعملية قرب تنفيذ السلام الحالي، ام هي محاولة لتوجيه الفئات الرافضة للسلام نحو المسار الصحيح ام هناك أهداف ودوافع أخرى.
وقبل الشروع في تحليل الأمر، لا بد من التذكير بأن تقرير سنتري الأخير ، صدر من جهة حقوقية ناشطة في المجال الإنساني، وتسعى الى تحقيق السلام والأمن الإنساني في جنوب السودان من خلال كشف أبرز الأسباب التي تعيق عملية تنفيذ السلام المنشطة حاليا. ويحاول التقرير توجيه رسائل مباشرة للجهات التي تعرقل السلام في جنوب السودان، سواء كان في الداخل او على مستوى بعض دول الإقليم. ويجيء هذا الأمر مع قرب إنطلاق عملية تشكيل الحكومة الإنتقالية والتي تحاول كل الجهات المستفيدة من استمرار الحرب في عرقلة تنفيذ الإتفاق المنشط. ولهذا فإن للأمر دلالات عديدة ، منها كشف مدى تورط دول الإقليم وبعض الدول الغربية في إستمرار الحرب في جنوب السودان. والتي تسعى من خلال أفراد وشركات متعددة لنهب ثروات البلاد الطائلة ، ودعم إستمرار الحرب ، من خلال صفقات بيع السلاح، وإقامة الشراكات التجارية مع بعض جنرالات الحرب في الداخل. اما الدلالة الأخرى و الهامة ، والتي يمكن قراءتها ما بين ثنايا هذا التقرير، هو توجيه رسالة مباشرة وعميقة للرئيس كير، بشأن عملية السلام الجارية، والتي تمر بمخاض عسير في ظل تلك سيادة تلك المصالح المتشابكة والمعقدة. حيث ترى تلك الجهة بأن الرئيس نفسه يمثل أحد أبرز التحديات التي تواجهها عملية السلام الجارية ؛ بسبب بعض المواقف المُربكة التي يبديها ، والتي من شأنها إعاقة مسار تنفيذ السلام .
اما مآلات ما قد يحدثه تقرير سنتري المثير، فهي عديدة أهمها ، ما قد يحدثه على المستوى الإيجابي.
ويمكن الحديث هنا، بأن توقيت التقرير قد يحدث أثر إيجابي في مسار عملية السلام الجارية، في الداخل والخارج. فعلى مستوى الداخل، يمكن أن يساهم الأمر في تغيير بعض مواقف الأطراف المتشددة والرافضة للسلام، الى القبول والإذعان للعملية السلمية، خاصة بعض الأسماء التي وردت بصورة مباشرة في التقرير. اما على مستوى الإقليم ، فقد يساهم التقرير في تحييد مواقف بعض دول الإقليم التي أصبحت جزء من الأزمة بتدخلاتها المباشرة في الأزمة التي تعيشها جنوب السودان، وربما يفضي الأمر في نهاية المطاف الى رفع الإقامة الجبرية المفروضة على مشار بسبب دول الإقليم وتأييد الدول الغربية المستفيدة من الحرب والتي ورد اسمها في التقرير.
وأيا ما كان الأمر من حقيقة هذا التقرير المثير، فقد أربك حسابات الداخل أكثر من أي وقت مضى، لأنه يستهدف الشخصية المحورية والأساسية في الصراع السياسي ـ الإقتصادي في جنوب السودان. الأمر الذي قد يلقي بظلاله على الاتفاقية الجارية، وربما تعيد الأمور الى نصابها الصحيح، وهذا ما نأمله بكل تأكيد.

Translate »