
وكتب فرانسيس مايكل..جنوب السودان: بين التعنت السياسي ودوامة الفساد
واجومانيوز
بقلم: فرانسيس مايكل قوانق
منذ بداية عام 2025 تقف جنوب السودان على حافة الهاوية مجدداً، حيث تُشير التحذيرات الأممية والأحداث الميدانية إلى أن الأزمة ليست مجرد تجدد للعنف، بل فشل بنيوي ناتج عن تعمُّد النخب السياسية عرقلة السلام ووضع مصالحها فوق مصالح الشعب، كما أن الفساد الممنهج وغياب العدالة، يعملان كمحفزين رئيسيين للصراع، إذ يكرسان الإفلات من العقاب، ويقوضان شرعية الدولة، والراهن السياسي والأمني في جنوب السودان، أم يتطلب من المجتمع الدولي خطوات حاسمة لإنقاذ عملية السلام قبل الانزلاق إلى صراع واسع النطاق لا تُحمد عقباه، بسبب أزمة القيادة والتعنت السياسي كنظام حكم.
لتناول الواقع في جنوب السودان، لا بد من الإشارة إلى أن تأسيس دولة جنوب السودان في عام 2011، كان تتويجاً لنضال طويل، لكنه أيضاً كان نقطة تحول كشفت عن هشاشة البنية السياسية التي بناها قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، فبدلاً من الانتقال من عقلية الحركة المسلحة إلى دولة مؤسسات، وُظِّفَت آليات النضال في بناء نظام حكم يعتمد على المحاصصة والولاءات القبلية والشخصية، مما أدى إلى فشل بنيوي في إنشاء دولة جامعة.
أيضا فإن الأساس الذي قامت عليه الدولة الجديدة لم يكن مجتمعاً متماسكاً، بل يمكن وصفه أنه كان في شكل “ائتلاف قبلي” هشاً، ومع تفجر الصراع في عام 2013، تحول التنافس على السلطة بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، إلى حرب أهلية بصبغة قبلية مروعة، استغلت النخب السياسية الهوية القبلية ليس كأصل ثقافي للتنوع، بل كـأداة تعبئة رئيسية لضمان الولاء في صراعهم على موارد الدولة. هذه الديناميكية حولت الجيش الشعبي إلى مجموعة من الميليشيات القبلية الموالية للقائد الفردي، مما خلق نظام حكم لا مركزياً في العنف، ولكنه مركزي في الفساد.
لقد رسخت الحرب منذ عام 2013، فكرة أن القوة تسبق القانون، فمن ارتكب أبشع الفظائع أُعِيد دمجه وتكريمه في كثير من الأحيان عوضا عن محاكمته. هذا النمط من الإفلات من العقاب هو الذي يفسر استمرار العنف على نطاق واسع حتى بعد توقيع الاتفاقيات.
عام 2025 منذ بدايتها شهدت تغييرات أمنية وسياسية، حيث تؤكد لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تقاريرها عن جنوب السودان مراراً وتكراراً، أن الأزمة هي نتيجة “خيارات متعمدة اتخذها قادة البلاد”، ما يشير إلى أن المشكلة تكمن في الإرادة السياسية لا في غياب الإطار النظري للسلام الموقع في عام 2018، ولقد مر على هذا الاتفاق سنوات من التنفيذ الانتقالي اتسمت بالبطء الشديد والتأخير المتعمد، ما يخدم مصالح القادة السياسيين الشخصية والقبلية والتمسك بمنافذ القرار.
ويبرز التعنت السياسي في الفشل الذريع لتنفيذ الترتيبات الأمنية المتوقفة. هذه الترتيبات، التي تشمل توحيد القوات المتناحرة في جيش وطني واحد، كانت العمود الفقري للسلام. لكنها ظلت “مجهولة”، مع بقاء الطرفين (قوات الحكومة والمعارضة) ككيانات عسكرية منفصلة ومسلحة، وهو ما يحافظ على التوازن الهش للرعب عوضا عن السلام المستدام.
تتسارع الأحداث حاليا، حيث إن يمثل الأمر الصادر مؤخراً عن رئيس الأركان بدمج جماعات مسلحة مثل “الحزام الأحمر” بالقوة، أو اعتبار وحدات المعارضة “قوات معادية” إذا لم تمتثل، دليلاً على تآكل الثقة والعمل خارج إطار السلام. رد فعل المعارضة بأن الاتفاق “أصبح ملغى وباطلاً فعلياً” يؤكد أن الانهيار وشيك، كما أن استخدام التهديد العسكري بدلاً من التفاوض السياسي يثبت أن عقلية الميليشيا ما زالت هي المهيمنة على مؤسسات الدولة.
الانقسام السياسي الأخير في المركز “جوبا” يُشجع الجماعات المسلحة على التحرك، وقد دفع احتجاز رياك مشار، النائب الأول المعلق مهامه، مجموعات مثل “الجيش الأبيض” بقيادة الزعيم الروحي مكواج توت وغيرهم إلى الحشد العسكري، مع هدف معلن هو الضغط على الحكومة. وعلى الرغم من قبول مكواج الحوار، إلا أن حقيقة استخدام الميليشيات كأدوات سياسية تُبين هشاشة البنية السلطوية في جنوب السودان منذ استقلال البلاد في عام 2011، وما هي إلا تأكيد على عقلية المليشيا التي تتفوق على عقلية الدولة، وهذه الميليشيات لا تعمل بالضرورة بأجندة وطنية، بل كوكلاء للقيادات السياسية تسعى لتأمين مناطق نفوذها ومواردها.
الحقيقة الحالية التي يحتاجها المواطن معرفتها هي أن الوضع الأمني يُظهر حالة من السيادة الجزئية واللامركزية في العنف، حيث لا يقتصر الأمر على تقاتل القوات الحكومية والمعارضة “أطراف اتفاقية السلام”، بل تسيطر أشكال أخرى من العنف على الطرق والمقاطعات.
يُعد تصاعد الكمائن المميتة على الطرق الرئيسية مؤشراً على تحول العنف إلى ظاهرة إجرامية منظمة تستهدف المدنيين والمسؤولين، مما يشل حركة الخدمات العامة والإغاثة. هذه الكمائن ليست بالضرورة نتاجاً لصراع سياسي مباشر، بل هي في كثير من الأحيان أعمال نهب تنفذها مجموعات مسلحة ومتمردون وجنود سابقون لم تُصرف رواتبهم، تستغل فراغ الدولة والهشاشة الأمنية.
الأخطر من الصراع بين “النخب في جوبا” هو العنف الأهلي المتصاعد بين المجتمعات المحلية في الأطراف، خاصة في ولايات البحيرات، وجونقلي، والوحدة، وأعالي النيل، هذا العنف، المدفوع أساساً بالخلافات حول الماشية والأراضي والمياه، وتحول إلى معارك مسلحة واسعة النطاق؛ بسبب توافر الأسلحة إلى حد بعيد نتيجة للحرب الأهلية وتجاهل الدولة، وفي كثير من الأحيان، يتم توظيف هذا العنف من قبل القادة المحليين في جوبا كأدوات لتصفية الحسابات السياسية والسيطرة على الموارد، كما أن العنف القبلي يمثل حجر الزاوية في الفشل البنيوي للدولة في احتكار استخدام القوة وتوفير الأمن لمواطنيها.
لقد رأينا أن تجدد الاشتباكات في مناطق الاستوائية، ومناطق عديدة في جنوب السودان” أدت إلى نزوح الآلاف داخل البلاد، وهروب 300 ألف مواطن إلى دول الجوار خلال عام 2025 وحده، ويواجه الإقليم الآن عبء استضافة أكثر من 2.5 مليون لاجئ، مما يزيد الضغوط الإنسانية والإقليمية. لكن هذه الأرقام الكبيرة لا تلمس قلوب القائمين بأمر الدولة في العاصمة جوبا التي تنعم بنوع من الاستقرار الأمني مع ظروف اقتصادية معقدة يعيشها السكان.
رغم صعوبة الوضع في البلاد منذ مطلع العام الجاري، تُعد ظاهرة “الفساد الممنهج وغير المقيد والتحويل المنهجي للموارد العامة” دافعاً رئيسياً للصراع. وهذا لا يشير إلى أفعال فردية، بل إلى نظام حكم كليبتوقراطي يحرم المواطنين من أبسط حقوقهم، كما أننا نشاهد معاناة المواطنين بسبب الحرب والفيضانات الناتجة من تغييرات المناخ.
خروج الحكومة قبل يومين على لسان وزيرها لشؤون مجلس الوزراء، بتهديدات “الحملة الصارمة” على البنوك التي تُسهل هروب رؤوس الأموال غير المشروع يُسلط الضوء على عمق الفساد المالي. واتهام البنوك بتقديم التمويل للأجانب على حساب مواطني جنوب السودان، وتحذير الوزير بأن القطاع “لا يُتحكّم فيه”، يكشفان عن تآكل سيادة الدولة على نظامها المالي لمصلحة شبكات النخبة. كما أن ثروة البلاد النفطية، التي كان من المفترض أن تكون أساس التنمية، تحولت إلى صندوق حرب وتمويل شخصي للقادة السياسيين، مما يربط الفساد مباشرة باستدامة الصراع.
حاليا تتدهور الظروف الاقتصادية للسكان على نحو مستمر، التضخم يتفاقم، والعملة المحلية تفقد قيمتها بشكل كارثي، بينما تعاني معظم مناطق البلاد من انعدام الأمن الغذائي الحاد. هذا التدهور لا يرجع فقط إلى سوء الإدارة، بل هو نتيجة مباشرة لسيطرة النخبة السياسية العسكرية على كل مفاصل الاقتصاد، مما يخلق وضعاً تكون فيه الحرب والتوتر السياسي ضروريين لاستمرار تدفق الأموال والموارد إلى جيوب هذه النخبة.
الحقيقة المخفية في جنوب السودان، هو أن فراغ العدالة والمساءلة يمثل أكبر عقبة بنيوية أمام السلام، حيث يُغذي الإفلات من العقاب، ويشجع على المزيد من العنف، ورغم مرور عقد على الصراع ودعوات متكررة من الاتحاد الأفريقي، لم يُحرز أي تقدم ملموس في إنشاء المحكمة المختلطة المنصوص عليها في اتفاق 2018. وترى رئيسة مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في تقارير عن الوضع، أن هذه المحكمة يجب أن “تنتقل من الورق إلى إجراءات ملموسة”، وأن العدالة أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى. هذا أمر مشجع للتحقيق، لكن يظل القرار الأخير والنهائي في يد قادة البلاد. ونشير إلى أن “عدم إنشاء المحكمة هو خيار سياسي متعمد”، لأن القادة أنفسهم قد يكونون هدفاً للتحقيق والمساءلة. وهذا الإحجام يعزز دورة العنف، طالما أن المجرمين محميون، سيستمرون في ارتكاب الجرائم، وإن إنهاء الإفلات من العقاب هو شرط لازم لبناء الثقة، وهو ما يشكل عائقاً بنيوياً أمام تحقيق السلام المستدام.
لقد تميز تعامل المجتمع الدولي، خاصة الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد)، بـالدبلوماسية المترددة التي ركزت على احتواء الصراع بدلاً من حل جذوره، وكان التركيز على “إرضاء” القادة وإبقائهم في عملية السلام، حتى على حساب مبادئ العدالة والحكم الرشيد.
جنوب السودان نظرياً وأمر الواقع يحتاج إلى فرض انخراط سياسي فوري ومستدام من الإقليم والمجتمع الدولي، على أن يضغط على القادة لاتخاذ “خيار يضع شعبهم أولاً”، عوضا عن ترك الأزمة تتفاقم إلى صراع واسع النطاق ذي عواقب إقليمية وخيمة لا تُتصور.
الحقيقة هي أن لا يمكن إنقاذ جنوب السودان إلا من خلال كسر الرابط الجدلي بين الفساد والإفلات من العقاب، ويجب على المجتمع الدولي (الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن) الانتقال من الدبلوماسية إلى “إجراءات حاسمة ومنسقة” تضع العدالة والمساءلة في صدارة الأولويات الأمنية، وهذا يتطلب “فرض عقوبات مالية مباشرة وشاملة على الأفراد والشبكات المالية المتورطة في الفساد وسرقة أموال النفط، وتفعيل المحكمة المختلطة ولو بشكل أحادي الجانب من قبل الاتحاد الأفريقي إذا استمر التعنت الحكومي، وذلك لإرسال رسالة واضحة بأن زمن الإفلات من العقاب قد ولى”.
النقطة المهمة هي إعادة هيكلة القطاع الأمني، حيث يجب أن يُشْرَف على عملية دمج القوات بحيادية تامة، مع التركيز على تسريح الميليشيات واستبدالها بقوات أمنية محترفة وغير حزبية، وموالية للدولة وليس للقائد، لأن فشل الترتيبات الأمنية يرجع إلى أن القادة يخشون فقدان السيطرة على أدوات قوتهم (الميليشيات) أكثر من رغبتهم في بناء دولة مستقرة.
كذلك يجب على المجتمع الدولي الضغط لضمان إجراء انتخابات ذات مصداقية وشفافية في الوقت المحدد، مع اشتراط أن يسبقها تقدم حقيقي في الترتيبات الأمنية والمساءلة، كما أن الانتخابات بدون إصلاحات حقيقية لن تؤدي إلا إلى إضفاء الشرعية على نظام كليبتوقراطي وإشعال جولة جديدة من العنف.
الخلاصة: هي أن جمهورية جنوب السودان ليست دولة فاشلة فحسب، بل هي مأزق “فشل بنيوي” نتج عن تصميم متعمد للنخب السياسية على وضع مصالحها الذاتية والقبلية فوق مصلحة الشعب، ولقد تحولت “التحرير” إلى “كلبتوقراطية”، واستُبدلت “وحدة النضال” بـ”الصراع القبلي والفساد الممنهج”، وإن أردنا إنقاذ هذه الدولة الوليدة، فإنه يتطلب تحولاً جذرياً في نهج المجتمع الدولي، بالانتقال من مجرد الوساطة إلى فرض المساءلة والعدالة كشرط أساسي للسلام، طالما ظل الفساد والإفلات من العقاب هما ركيزة السلطة في جوبا، فإن السلام سيظل مجرد هدنة مؤقتة على حافة الهاوية.
تحياتي ………. وأبقوا على الوطن