السودان إلى أين ؟ في ظل إستمرار الحروب الداخلية ، إنعدام ثقافة السلام.!

واجومانيوز

بقلم: أنور ييل

منذ فجر الخامس من أبريل 2023، اندلعت الأزمة بين الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة، والجنرال محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، بعد محاولات مضنية لاحتواء فتيل الحرب، بسبب الخلافات العميقة بينهما.

تشير التقارير إلى أن سبب الأزمة هو بند “دمج القوتين”، حيث تباينت وجهات النظر حول الفترة الزمنية اللازمة لإتمام عملية الدمج. الجيش اشترط عامين فقط، بينما طالبت قوات الدعم السريع بعشرة أعوام.

 

المدخل:

 

الحرب التي صرح بعض قادة الجيش بأنها لن تستغرق سوى أيام، امتدت الآن لما يقارب العامين. السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه: إلى متى ستستمر هذه الحرب؟

سؤال آخر مهم للغاية: هل هناك عداوة دائمة؟ يجب أن نضع في الاعتبار طبيعة العلاقة التي تربط بين الجنرالين، حيث يعتبر الجنرال حميدتي من صنع البرهان، بل كان حليفه ونائبه في مجلس السيادة.

إلى متى ستستمر هذه العداوة، أو بالأحرى، ما هي الفترة الزمنية التي ستستغرقها؟ هل هي “عدو مطلق”؟ سؤال بسيط ولكنه يحمل في طياته الكثير.

 

(1)

 

منذ اندلاع الأزمة في دولة السودان “الشقيقة”، بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، رافقه انقسام حاد في الشارع السوداني بين “داعمي الجيش والدعم السريع”، المؤيدين لكل طرف في هذه الحرب.

وصل هذا الانقسام الحاد والعنيف إلى حد القطيعة بين الأسر والأصدقاء زملاء الدراسة . أبناء الوطن الواحد أصبحوا منقسمين ومتطرفين، حيث يرى كل طرف في الآخر كتلة مستقلة معادية، لا ترى فيه إلا “فلولي أو مليشي” يجب قتله أو زجره ، شتمه وتحقيره على أقل تقدير.

هذا المستوى الخطير من العداء، مع استمرار الحرب لفترة طويلة، قد يولد ندوبًا عميقة وقاسية بين مكونات المجتمع السوداني، وخاصة بين “الشمال والوسط الجغرافي، وبعض القبائل العربية في الغرب وعلى طول الشريط الحدودي الجنوبي والغربي”.

 

(2)

 

دعوني أعيد صياغة السؤال بطريقة أخرى: هل عداوة الجيش والدعم السريع ستستمر إلى ما لانهاية ؟ ماهي فرص السلام .؟

مع العلم أن الدولة السودانية ، منذ تأسيسها، وهي في حالة حرب بين مكونات مختلفة ضد الجيش السوداني. تراوحت فترات هذه الحروب بين (سنتين مع جبهة الشرق إلى 21 سنة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان)، وتعتبر هذه المدة الأخيرة رقماً قياسياً كأطول حرب تمرد داخلي في أفريقيا.

في الحقيقة، الخطاب العام الذي ينحدر من قمة الهرم “القيادي” إلى أسفل القاعدة، كلما بدأ ينحدر، أصبح أكثر تطرفاً وعدائية. إنه ليس خطاباً متزناً ومسؤولاً، يعرف أن ما حدث ليس إلا عداوة مؤقتة، مهما طال أمدها، فهم في النهاية سودانيون، ولا بد من اللجوء إلى السلام.

 

(3)

 

في الحقيقة، الجيش السوداني متمرس في صناعة المليشيات المسماة “قوات الإسناد”، (الكتائب الجهادية، القوات الموالية لها مثل البراء بن مالك، درع السودان، المستنفرين… إلخ).

ورغم تمرسه في صناعتها، إلا أنه يفشل في كيفية تفكيكها سلمياً في المستقبل، وهو ما سيقود إلى استغلال هذه القوات غير المنظمة، ذات العقيدة الإيديولوجية والعقائدية المتشددة.

سيتم استغلالهم من قبل بعض “القادة والسياسيين”، مما ينبئ بنفس المصير.

لأن الجميع يعلم أن قوات الدعم السريع هي من صنع الجيش، كما صنعت من قبل “قوات الإسناد” المتحالفة معها، والتي كانت عدو الشعب السوداني منذ بواكير ثورة ديسمبر التي أطاحت بالبشير، لأنهم أذاقوهم الويلات، خاصة بعد الاتهامات بارتكابهم مجزرة فض اعتصام القيادة العامة.

بنفس التوجه الراديكالي، وظف الجيش والحكومة أجهزتها الرسمية وغير الرسمية “لجعل الدعم السريع” مقبولاً وصنعوا لهم بطولات وهمية. لا يكاد هناك لجان إلا وكان “آل دقلو” عضواً وقائداً فيها. وفي ظرف عامين بالضبط، تمكنوا من تحقيق مرادهم.

وجعلوا الدعم السريع جزءاً أصيلاً من الجيش وواجهة مستساغة للشعب السوداني، بوصفها الإبن الشرعي من رحم الجيش “حامي حدود البلاد” على حسب زعمهم. كل ذلك أنهار في المفاوضات الأخيرة حول التوقيع على “الاتفاق الإطاري”.

 

(4)

 

حينما أنفجرت الأوضاع بين القوتين، كان موازين القوى متقاربة ، الدعم السريع لديه “رصيد سياسي وشعبي ، إقتصادي” لا يقل عن الجيش السوداني .

لكن الجيش متمرس في صناعة المليشيات و كذلك “الترميز التضليلي” لإضفاء الشرعية على حروباته في حالة الأوضاع الغاتمة ، للإيحاء بأن المعركة هي “معركة كرامة ووجود”إستخدام الأسلحة المعنوية إيديولوجياً، من خلال تسخير الإعلام الشعبي والرسمي.

وتصوير أنفسهم (الجيش) على أنهم منقذون، رغم أنهم من صنعوا الأزمة ، كل ما حدث يوصف بأنها “حرب الجنرالين” وهم جزءاً أصيل فيها.

 

و من خلال التلاعب بالجماهير عبر “الإعلام الموجه” الشعبي والرسمي، تمكن الجيش من حشد كل قوته لتوظيف خطاب مستساغ حول “تمرد الدعم”، ووصفهم بأنهم (ميليشيات مرتزقة) عملاء ومتعاونون لخدمة أجندة بعض دول الجوار.

 

(5)

 

بعد مرور ما يقارب من عامين على الحرب، نجح الجيش السوداني وأجهزة الدولة الرسمية في مساعيها، حيث شكلت صورة ذهنية لدى الشعب السوداني بأن عدوهم الأول والأخير والأبدي هو “الدعم السريع”.

بذلك كسب الأفراد والجنود الغاضبين وتمكنوا من توحيد جهود عموم السودانيين “الحانقين والغاضبين والثائرين” على الوضع العام منذ سقوط البشير حتى إنفجار الأزمة بين الجنرالين، وبذلك جففت كل القنوات الأخرى من شرعيتها ووجودها وتأثيرها، مثل القوى السياسية والمدنية والمهنية… إلخ.

حصرت كل الخيارات والآراء في بوتقة واحدة (مع أو ضد)، مستخدمة آلياتها الإعلامية في مواجهة خصومها أو المختلفين معها والمحايدين أيضاً .

حيث لا مكان “للحياد”، فإما أن تكون مع الجيش أو ضده، حيث وصل بهم الأمر إلى وصفهم “بالمتعاونين والمتخاذلين… إلخ”.

نتيجة لهذا التوجه والحشد المتطرف وغير المقيد بمعايير مهنية أو وطنية أو أخلاقية أو “عسكرية” حتى عقائدية، شهدنا وما زلنا نشاهد يومياً الفظائع التي تنشر (توثق) في الوسائط… إلخ.

هناك قاعدة ثابتة: (ليس هناك عداوة مطلقة).

 

(6)

 

السودان مليء بالنماذج التاريخية التي تؤكد ما ذهبت إليه، وهي أن حرب السودان الحالية ستنتهي بتسوية سياسية.

لكن الهدف الرئيسي للجيش وحلفائه حالياً هو إستخدام الحرب كآلية إقصاء للقوى السياسية، وكذلك تصفية بعض القوات.

الهدف العسكري هو إيجاد مساحة تفاوضية في “الميدان”، وخاصة إقصاء “قوى الثورة السودانية” من “قوى الحرية والتغيير ومثيلاتها” سابقاً، و”تقدم” حالياً، والتجمعات المهنية المدنية والأحزاب المعارضة، وكذلك استنزاف الحركات “الدارفورية” المتحالفة.

لكي يخلوا المساحة “سياسياً ، عسكرياً” ويكونوا في مواجهة مباشرة فقط مع “قوات الدعم السريع” الفقيرة سياسياً من دون حاضنات سياسية.

لدينا العديد من النماذج والشواهد التاريخية على سبيل الذكر لا الحصر:

 

أولاً : حركة أنانيا 1 التي استمرت 17 عاماً (1955 – 1972م)، تم وصفهم بالنيور والخوارج، وانتهت باتفاقية أديس أبابا.

 

 

ثانياً: الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي وصفها الإعلام بـ”الكفار” و”العملاء”، انتهت باتفاقية السلام الشامل 2005م التي أفضت إلى انفصال دولة جنوب السودان.

 

ثالثاً: حركات تحرير دارفور التي بدأت منذ “2003 – 2020م”، جلها انتهى باتفاقيات، آخرها اتفاقية جوبا لسلام السودان.

رابعاً: لدينا حرب المنطقتين “النيل الأزرق وجنوب كردفان” منذ 2011-2022م” التي تقودها الحركة الشعبية/شمال، وقبيل انشقاقها أيضاً انتهت باتفاق سلام.

 

(٧)

 

الآن: من لديه بعد نظر وقدرة تحليلية سيكتشف أن التطرف لا يقود إلا إلى صب الزيت على النار، الموت يقود إلى المزيد من الموت، وكل ما سيحدث نتيجة لذلك التطرف ستكون “ندبة” تاريخية، ذكرى سيئة لا يفتخر بها السودان والسودانيون، من تجارب حادة يملأها الحقد. مثلما حدث في جنوب السودان حينما قُتل أكثر من مليوني شخص، وهي ذكرى سيئة تلاحق الأنظمة المتعاقبة على السودان، بالأخص “الإسلاميين المتطرفين”.

وكذلك مذابح التصفية العرقية في “دارفور”، بالتحديد في معسكرات كلمة للنازحين، حينما أُبيد ما يقارب 400 ألف شخص، واليوم أصبحت ذكرى مخجلة ومخيفة ما زالت المحاكم الدولية تلاحق مرتكبيها.

 

إصرار الجيش على الحسم العسكري إعادة السيناريوهات القديمة بذات التكلفة و العقلية.

استراتيجياً ما هي إلا بحث عن وضع تفاوضي أفضل و خدمة أجندات أخرى، لأن العملية التفاوضية تُبنى على موازين القوى على الأرض “الميدان”، رغم يقينها أنه حلم لن يتحقق طيلة 60 عاماً من عمر القوات المسلحة، لم تنتصر أو تتمكن من حسم أي معركة عسكرياً، وذلك حسب الشواهد التاريخية أعلاه.

 

(٨)

 

ما كانت هناك أي “انتصار للجيش”، وإلا ظهر الجانب الخفي، واستحضرت كل إخفاقاتها ومرارتها التاريخية ضد “أبناء جنوب السودان، الغرب الجنوب الغربي” معها.

وأطلت التجاوزات والمذابح برأسها.

ما يعني أي انتصار ساحق لطرف يشكل تهديداً للآخر … إلخ.

تعميق الإعلام المتطرف المتشدد للحرب، وإغلاق كل منافذ الحوار والتضييق الممنهج لغير الداعمين لحربهم العبوث المسماة زوراً “حرب الكرامة” عن عمد.

سيعيد تشكيل الجغرافيا والإنسان السوداني، ويعيدهم إلى نقطة البداية “وعي غير مُحرر”.

 

المعادلة معكوسة الآن “أي إنسان ذو فطرة وعقيدة نظيفة من الطبيعي أن لا يدعو للحرب، الآن أصبح العكس من يدعو للسلام، يُنبذ الحرب هو الغير طبيعي” أيُعقل هذا؟

هم وضعوا الجميع في إطار “بل بس، فتك ومتك” لكي يجبروا الآخرين إما أن يكونوا مثلهم، أو يواجهون مصير أعدائهم.

إعمار النفوس صعب، النفوس التي تشبعت بالذبح، الدم، الموت والخراب، الحرب، صعب بمكان أن تعود لطبيعتها من جديد، وهذا ما لا يفهمه الآخرون الذين يدعمون “الموت، الخراب” الحرب.

لأننا شعوباً جمعتنا تاريخ مشترك وشربنا من كأس هؤلاء العقليات نعرف ديدنهم المتقلب المتلبس الذي يضمن مآربهم فقط دون الاكتراث للثمن والضريبة الباهظة .

 

(٩)

 

القرن الأفريقي مليء بالتقلبات السياسية والعسكرية التي تتمايل معها “آراء الشعوب طرباً مع تراتيل أعلامها الموجه”، وهو ما عقد وشوه وعي الشعوب الأفريقية وجعلها خانعة تابعة، يقبلون بأي شيء يرتضيه أو يفرضه القادر.

الإجابة المنطقية؛ ليست هناك عداوة مطلقة، وما يحدث في السودان عاجلاً أم آجلاً سيفضي إلى اتفاقية سلام، ستصور الآلة الإعلامية نفسها الموقعون على أنهم أبطال قوميون وذات الجيش الذي لا يُهزم بطلاً لجلبه السلام.

على مر التاريخ السوداني منذ الإستقلال كان الدم السوداني الأرخص، وذات الجيش هو آلة الموت والقمع في يد القادة الطموحين، الساسة بزيهم العسكري .

لكن ستظل الندوب الدائمة، شعوباً أُبيدت، وشباباً قُتلوا والكثير المثير الذي يُضاف إلى تاريخ السودان سجل الجيش الدامي والمليء بالقصص المأساوية التي ربما تقود إلى فصل جزءاً عزيزاً منه مستقبلاً.

لأن ثقافة مع أو ضد ستقود في النهاية إلى “الكل ضد الكل”، ربما ستنتهي الدعم السريع وتنضوي من المشهد لكن ستسطع نجم ميليشيا أخرى مصنوعة من النظام الجيش نفسه “تخلقه، ثم تمكنه، تنقلب عليه، ثم تستعين بأخرى لكي تسحقه وتستمر الحكاية”.

ما لم يتم إعادة إصلاح الجيش السوداني، وتأهيله ليصبح جيشاً قومياً بلا نزعة أيديولوجية لخدمة فئة أو حزب .

Translate »