وكتب اتيم سايمون..ديرك الفريد.. المثقف الموسوعي والفنان النبيل 

واجومانيوز

بقلم:اتيم سايمون

صدمة كبيرة وفراغ واسع خلفه رحيل أستاذنا الفنان المسرحي والمثقف الموسوعي ديرك أويا الفريد، مؤسس مسرح كوتو الأهلي الذي تحول فيما بعد إلى مجموعة كوتو المسرحية، برفقة الأستاذ السماني لوال، واستيفن أفير أوشلا، في مطلع تسعينيات القرن الماضي. كانت تلك مرحلة يمكن وصفها بمرحلة التيه السياسي، التي بلغت ذروتها مع صعود التيار الإسلامي المتشدد التكفيري إلى السلطة وفرضه نموذجًا أحاديًا في الحياة الاجتماعية والثقافية.

 

في توقيت عبقري، برهن ديرك وأصدقاؤه الفنانون على إمكانية ابتدار تجربة جديدة في “النضال الثقافي”، تجاوزت خطاب التنوع المفتوح نحو تعزيز الحضور الاجتماعي لجنوب السودان وبقية مناطق السودان “المهمشة” في مسرح الحياة المفتوح. مثلت تلك التجربة، ولا تزال، النموذج الأكبر الذي قدمته نخبة فنية من جنوب السودان لاستعادة الاعتبار الثقافي في أزمنة القهر والاضطهاد.

 

كان ديرك أويا الفريد مهمومًا بالتعريف بجنوب السودان ككيان يتمتع بخصوصيته وله فرادته من حيث أشكال التعبير الفني والمسرحي. كما سعى إلى تخليق منهج في التنشئة الثقافية قائم على تعزيز اعتزاز الأجيال التي نشأت في ظروف “النزوح” بتراثها الثقافي وممارساتها وعاداتها الاجتماعية، لمواجهة ثقافة الاستعلاء. هذا المنهج أدى إلى تصالح الفئات المتعلمة من تلك المجتمعات مع لغاتها، ورقصاتها، وإرثها المادي والمعنوي.

 

نال مشروع كوتو احتفاءً كبيرًا لأنه قدم جنوب السودان ككتلة واحدة متماسكة، في وقت بدأت التصدعات الاجتماعية تطل برأسها، خصوصًا بعد الانقسامات العميقة التي شهدتها الحركة الشعبية في مطلع التسعينيات. وبهذا، تحولت تجربة كوتو إلى الممثل الرسمي للهامش السوداني وثقافاته في مختلف المحافل الرسمية والشعبية.

 

لم يكتفِ ديرك الفريد بتخصصه في المسرح، بل عمد إلى تحويل مجموعته الفنية إلى مركز ثقافي متكامل، يضم مكتبة متخصصة بالدراسات الإنسانية، وتحديدًا الدراسات السودانية. كما كان المركز يضج بنشاط ثقافي كبير في قلب العاصمة السودانية، الخرطوم، حيث استضاف أبرز الكُتّاب والأكاديميين السودانيين لتقديم أطروحاتهم للنقاش الجماهيري، مما ساهم في ترسيخ ثقافة الحوار الديمقراطي.

 

ترك ديرك الفريد كتابات ومساهمات علمية مشهودة في مجالات الثقافة، والتنوع، والمصالحة، ودور الفن في بناء شخصية الفرد. استلهمت معظم هذه المساهمات من تجربة الممارسة الثقافية لمجتمعات جنوب السودان المتعددة، وقدمها في مؤتمرات علمية داخل وخارج البلاد.

على الجانب الآخر، كانت تجربة ديرك الإبداعية والفنية مصدر إلهام لأجيال كاملة في الحركة الفنية والثقافية بجنوب السودان، سواء من خلال دراسة المسرح أو تأسيس جماعات فنية مشابهة لمجموعة كوتو.

سيترك ديرك الفريد فراغًا واسعًا في المشهد الثقافي والحراك الفني في البلاد. فقد كان المسرحي المبدع، الباحث الخلّاق، والإنسان المستشعر لكل شيء تقريبًا. غادر دنيانا بينما الحركة المسرحية والفنية لا تزال تتحسس خطاها، تمامًا كما البلاد التي تواجه الخطوب وهي لا تزال في إهابها الغض.

 

رحم الله الأستاذ الفنان ديرك الفريد بقدر ما قدم للسودان وجنوب السودان، وللفن والإنسانية جمعاء.

تم..

Translate »