وكتب سانتو بربر ..لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها!!
واجومانيوز
بقلم: سانتو بربر
(1)
سيرة الحرب والتفاوض لوقفها هي السيرة المتلازمة لأحدث دولة في العالم تنال استقلالها بعد أطول حرب أهلية شهدتها القارة الإفريقية. جنوب السودان، حقنا، طلعناها بالدم، وحقنا مئة بالمئة. بهذا الوصف يتداول الكورال الأخير سيرة دولة جنوب السودان على المستوى المحلي والإقليمي. أما على المستوى العالمي، فصور المأساة والمعاناة في مخيمات النزوح واللجوء هي العنوان الكافي للرد على التساؤلات.
الغريب في الأمر أن كرة النار تتنقل بين القادة السياسيين دون أن تلوح في الأفق إشارة واضحة لإيقاف هذه الحرب التي قتلت الآلاف وشردت الملايين. الطاولة التي ينتظر عامة الشعب في جنوب السودان أن تؤتي ثمارها هي مباحثات السلام الجارية في العاصمة الكينية، أو ما يسمى بمبادرة “تومايني” (الأمل). تهدف هذه المبادرة إلى إشراك الحركات المعارضة غير الموقعة على اتفاقية 2018م في عملية السلام.
وقد قبلت معظم الفصائل الرافضة لاتفاقية السلام المنشطة مبادرة تومايني، عدا “جبهة الخلاص الوطني” بقيادة توماس سيريلو. وبرغم توقيع الأطراف على تسعة بروتوكولات بالأحرف الأولى في شهر يوليو الماضي، إلا أن المخاوف بشأن استكمال عملية السلام والتوقيع النهائي على بعض البروتوكولات مع جدولتها الزمنية للتنفيذ لا تزال قائمة.
المخاوف تزداد من انهيار المفاوضات إذا لم تنتبه الحكومة للمخربين أو المعارضين لمبادرة تومايني، كما جاء في تحذير أحد قادة الحركات المعارضة المتفاوضة في نيروبي. فقد قال الجنرال المعارض “استيفن بواي”، رئيس الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان، إن مبادرة تومايني ستنهار إذا لم يتم السيطرة على وزير شؤون مجلس الوزراء مارتن إيليا ومستشار الأمن الرئاسي توت قلواك وآخرين من أعضاء لجنة تنفيذ اتفاق السلام لعام 2018م.
(2)
إحلال السلام في جنوب السودان لا يمكن أن يختلف حوله عاقلان، لأن الحرب التي دارت رحاها منذ عام 2013 أضرت بالبلاد. ولكن الحقيقة التي يجب أن تقال: هل الجماعات المعارضة لاتفاقية السلام المنشطة والمتفاوضة الآن في نيروبي من أجل المكاسب السياسية قادرة على وضع مصلحة البلد فوق المصالح الذاتية؟ وهل الحكومة قادرة على تقديم التنازلات لتحقيق السلام وجعله واقعاً معاشاً يعيد البسمة للمواطنين؟
الإجابة على هذه التساؤلات تتطلب إلقاء الضوء على الأوضاع السياسية التي بنت عليها القوى السياسية (الحاكمة والمعارضة) فكرها لإدارة الدولة. بدءاً من تكوين الحكومة الأولى بعد الاستقلال، مروراً بميلاد أحزاب التوالي السياسي، وتحالفها مع الحكومة، وطبيعة الانقسامات التي شهدها الحزب الحاكم ومكامن الخلافات الجوهرية.
(3)
الصراعات داخل فصيل الحزب الحاكم، والتي أدت إلى اندلاع الحرب عام 2013، تعود بالأساس إلى الصراع حول السلطة والمناصب الوزارية، دون تقديم أي خدمة حقيقية للمواطن. وبما أن الصراع حول السلطة جزء لا يتجزأ من العمل السياسي، إلا أن هشاشة البنية الاجتماعية وهشاشة الأحزاب السياسية أضافت مزيداً من التعقيد.
جنوب السودان نال استقلاله عبر الاستفتاء على حق تقرير المصير، وفقاً لاتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، التي أنهت حرباً أهلية بين الشمال والجنوب دامت 22 عاماً، وأسفرت عن مقتل حوالي 2.5 مليون جنوبي.
الاستقلال كان تحوّلاً مهماً أدخل جمهورية جنوب السودان إلى المجتمع الدولي كدولة مستقلة ذات سيادة. ولكن معالجة تحديات دولة جديدة تحتاج إلى رؤية استراتيجية لتحويل الاستقلال السياسي إلى مستوى معيشي عالٍ لشعب جنوب السودان.
(4)
حالياً، تعيش دولة جنوب السودان في ظل اتفاق “مغمى عليه”، داخل غرفة الإنعاش. هذا الاتفاق، الذي وقعته فصائل المعارضة مع الحكومة تحت اسم “اتفاقية السلام المنشطة” لعام 2018، نص على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية بهدف تنفيذ إصلاحات وهيكلة مؤسسات الدولة.
الاتفاقية نصت أيضاً على إجراء انتخابات رئاسية عند نهاية الفترة الانتقالية ليختار الشعب من يحكمه، وكان من المتوقع أن تُجرى الانتخابات في ديسمبر الجاري. ولكن في اللحظة التي كان ينتظر فيها الشعب والمجتمع الإقليمي والدولي ميعاد الانتخابات، أعلن طرفا الاتفاق تمديد الفترة الانتقالية لمدة عامين، بحجة إتاحة الوقت لاستكمال التعداد السكاني، صياغة دستور دائم، وتسجيل الأحزاب السياسية.
قرار التمديد استُقبل بدرجة عالية من الإحباط واليأس في الشارع العام بجنوب السودان، في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور وتراجع العملة الوطنية أمام الدولار.
(5)
بعيداً عن “دفن الرؤوس في الرمال”، تعاني دولة جنوب السودان من تحديات بناء مؤسسات الدولة، حيث تبرز الانقسامات القبلية التي ألقت بظلالها السلبية طوال سنوات الحرب.
وعلى الرغم من ثراء الموارد الطبيعية، إلا أن مؤشرات الواقع الاجتماعي والاقتصادي تشير إلى تدهور كبير. دخل الفرد في جنوب السودان منخفض للغاية، ونسبة عالية من الأطفال يموتون قبل سن الخامسة، بينما نسبة الأمية بين البالغين مرتفعة جداً. كما تفتقر البلاد إلى البنية التحتية، ناهيك عن الفساد الذي يعد حديثاً متشعباً.
في تقرير حديث صادر عن منظمة الشفافية الدولية، صُنفت جنوب السودان ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حيث احتلت المرتبة (177) من أصل (180) دولة، ما يجعلها ثاني أكثر الدول فساداً.
(6)
حتى لا تصبح تجربة جنوب السودان أسوأ تجربة لدولة حديثة في العالم، تقع على عاتق القادة مسؤولية إخراج البلاد من دائرة الفشل. هذا يتطلب فتح منابر حوار في الداخل والخارج لإعادة الدولة إلى مسار النمو.
أقول هذا لأن دولتنا الوليدة تعاني الآن من “أمراض الطفولة السياسية”. ومعالجتها لا يمكن تركها للمتحاورين في نيروبي فقط. من دروس الماضي نستخلص العبر، ولا يكفي التشهير بقضية شعب جنوب السودان كصك غفران أو محاولة لطمس الحقائق.
آن الأوان لبذل المزيد من الجهد وتقديم التنازلات لبناء وطن جامع.
“لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيكم إن لم تسمعوها!!”
ولنا عودة.
جوبا – 14 نوفمبر 2024
Ochansanto905@gmail.com