وكتب باطومي ايول ..”محادثات نيروبي ” محطة تاريخية مهمة

واجومانيوز

بقلم:باطومي أيول

منذ أن انطلقت “مبادرة تومياني” في ٩ مايو ٢٠٢٤م ، بدأ الحراك السياسي في جنوب السودان يتجه نحو المفاوضات التي تجري في نيروبي، مترقباً النتائج المحتملة لهذه المحادثات، وسط تحديات جسيمة تواجه البلاد على كافة المستويات الداخلية والخارجية، بما في ذلك السياسية والأمنية والاقتصادية والدبلوماسية.

يرى المراقبون للشأن الجنوب سوداني أن ما يجري في نيروبي يمثل محاولات يائسة من الحكومة لإنقاذ نفسها من مأزق الشرعية الذي يواجهها على الساحة الدولية، خاصة مع اقتراب نهاية الفترة الانتقالية المقررة في ديسمبر من العام الجاري. إلى جانب ذلك، تسعى الحكومة إلى إيجاد حلول للأزمات المتفاقمة التي يعاني منها الشعب، والتي بلغت ذروتها دون تقديم حلول ناجحة، مما أدى إلى انتشار القلق بين المواطنين بسبب غموض المستقبل السياسي للبلاد.

المبادرة تشكل محاولة أخيرة من الحكومة لتعزيز شرعيتها داخلياً ودولياً، في وقت أصبح فيه الوضع في جنوب السودان أكثر تعقيداً وخطورة، وتتطلب اتخاذ إجراءات فعالة وسريعة لإنقاذ البلاد من الانهيار الشامل وتحقيق استقرار سياسي وأمني مستدام.

 

مبدأ فكر الحكومة:

من منظور الحكومة (الحزب الحاكم) في جنوب السودان، تعتبر مبادرة تومياني الكينية مشروعاً لتحسين وضعية الحزب وإعادة تمكين مؤسساته، ودعم شرعية مواصلة حكمه التي باتت مهددة. الحزب الحاكم يعاني من تدهور واضح في منهجه السياسي وتعاطيه مع قضايا البلاد، مما أدى إلى فقدان الثقة فيه حتى بين أعضائه. يُظهر هذا الوضع أن الحزب بدأ يتآكل من الداخل، وهو ما أكده العديد من الأعضاء بقولهم إن الحزب فقد البوصلة التي رسمها زعيمه الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور، الذي كان يسعى إلى تأسيس دولة مركزية قوية في الإقليم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هذه الرؤية بسبب ظروف وفاته.

الحزب الحاكم ينظر إلى مبادرة تومياني كفرصة لتجديد روحه وتهيئة نفسه لمواجهة التحديات الراهنة. المبادرة تأتي في وقت حرج حيث تواجه الحكومة ضغوطاً كبيرة لتشريع نظامها أمام المجتمع الدولي بعد انتهاء الفترات الانتقالية التي اعتمدت عليها لتوفيق أوضاعها. الحكومة لطالما اعتمدت على هذه الفترات لكسب شرعية حكمها والتعامل مع المعارضين، ما جعلها بحاجة ماسة إلى هذه المبادرة لإنقاذ نفسها من التشاؤم المحيط بها.

إجمالاً، تسعى الحكومة من خلال مبادرة تومياني إلى استعادة شرعيتها وتجديد حيويتها السياسية، لتتمكن من مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه البلاد على مختلف الأصعدة، سواء كانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو دبلوماسية. المبادرة تُعد بالنسبة للحكومة وسيلة لتعزيز موقفها أمام المجتمع الدولي وإعادة بناء الثقة الداخلية والخارجية بها.

 

المفاجأة:

مع مرور الوقت، اتضح أن الطرف المفاوض في نيروبي المقابل للحكومة يسير في اتجاه استغلال المنبر ليس فقط لقضية التمثيل في السلطة، بل لتحقيق مسؤولية وطنية لإنقاذ البلاد من الانهيار. الجنرال باقان أموم، في حديثه يوم افتتاح المحادثات، أكد أن المعارضة لا تتفاوض من أجل اتفاق سياسي جديد فقط، بل تنتقد الحكومة لعدم تنفيذ الاتفاقات السابقة كما وردت في تفاصيلها. باقان أشار إلى ضرورة إعادة التفكير في مفهوم الاتفاق السياسي نفسه، وتحويله إلى مشروع سياسي لإنقاذ البلاد، مقترحاً نهجاً جديداً لمناقشة تحديات البلاد ضمن إطار فلسفي يعتمد على “عقد اجتماعي جديد”. هذا العقد يتضمن تأسيس نظام حكم يصلح للبلاد ويحقق استقراراً سياسياً طويل الأمد.

من هنا، يبدو واضحاً عدم توافق رؤى الحكومة والمعارضة في قضايا النقاش في نيروبي، والتباين في كيفية إخراج المنبر حسب التحديات الماثلة. المعارضة تسعى لتحويل المحادثات إلى نقاش شامل حول مستقبل البلاد وليس مجرد اتفاق سياسي جديد، وهو ما يشير إلى توجهها نحو مشروع سياسي بعيد المدى.

في تقديري، رؤية المعارضة (سوما) هي الأكثر تأثيراً رغم ضعف بعض مبادئ الطرح، حيث تركز على إقناع الطرف الحكومي بضرورة الوقوف لمراجعة الأخطاء التاريخية والاستراتيجية التي وقعت فيها الحكومة في إدارة الدولة. واما المعارضة فهي تستغل المنبر لإيجاد مشروع سياسي مستقبلي يمكن أن يحمي الحكومة والمعارضة من المسؤولية التاريخية في حال فشل الأمور وخروجها عن السيطرة. المعارضة تدفع باتجاه تحويل المحادثات إلى فرصة لإعادة بناء النظام السياسي في جنوب السودان، مما يعكس رغبتها في وضع أسس جديدة تضمن استقرار البلاد في المستقبل.

مرحلة التدويل والجدية:

لا شك أن للتفاعل الخارجي أثراً كبيراً في قراءة ما يجري في نيروبي، وخاصة من حيث قضايا الدعم للوصول إلى مخرجات مرضية تتوافق عليها كل الأطراف المنخرطة في المنبر. هذا التفاعل الخارجي يساهم في إظهار نوايا الشركاء الإقليميين والدوليين في تسخير جهودهم لدعم المحادثات.

من المهم أن نستحضر دور كينيا في هذا السياق، حيث تسعى لتعزيز سياستها الخارجية من ناحية عبر هذه المبادرة الإقليمية (مبادرة تومياني) من خلال دفع الأطراف للوصول إلى اتفاق، وحشد المجتمع الدولي لدعم جهودها في إنجاز هذه المهمة. هذه المبادرة تأتي في ظروف سياسية قاسية تمر بها القيادة في جنوب السودان، بعد تراجع الدعم الدولي للحكومة نتيجة افتقار قادة جنوب السودان إلى الإرادة السياسية اللازمة لتحقيق التحول السياسي والديمقراطي الذي يحقق رفاهية الشعب.

في تقديري، يبدو أن جهود كينيا تسير نحو النجاح في حشد الدعم الدولي والإقليمي للمنبر، رغم بعض التردد. فظهور بعض الدول وإبدائها دعم المنبر يُعد مؤشراً إيجابياً ويمكن أن يكون دافعاً معنوياً يؤسس لجدية الأطراف في المحادثات.

ومن هنا، نذكر موقف السفير الأمريكي لدى جنوب السودان، أدلر، الذي أكد أثناء زيارته لمقر المفاوضات في نيروبي دعم الولايات المتحدة للمحادثات بشرط أن تحقق تحولاً ديمقراطياً يلبي تطلعات الشعب. كما عبرت النرويج ايضا عن دعمها للجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار والسلام في جنوب السودان، شريطة أن تساهم في تحقيق توافق سياسي ومشروع سياسي يؤسس لعملية التحول الديمقراطي.الإشارة هنا، في تقديري، تكمن في إيجاد إطار برامجي يتضمن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في الاتفاقية المنشطة وخارطة الطريق، مما يتيح للشعب ممارسة دوره في اختيار قادته عبر صندوق الانتخابات. الدعم الدولي والإقليمي يسعى إلى التأكد من أن المحادثات تؤدي إلى تحولات ديمقراطية حقيقية ومستدامة تضمن استقرار البلاد ورفاهية شعبها.

قلق داخلي:

ومن ناحية اخرى يبدو أن حالات القلق بدأت تراود الأطراف الداخلية المكونة لاتفاق السلام المنشطة، حيث يشير منهج محادثات نيروبي إلى محاولات جديدة لاستبدال الاتفاق المنشطة باتفاق جديد، لا سيما هذا الوضع يمكن أن يؤثر على هيكلة الحكومة ويعيد النظر في قضايا المشاركة السياسية. تجسد هذا القلق في خطاب دكتور رياك مشار الاخيرة يوم ١٨ يونيو ٢٠٢٤م، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة، حيث أبدى تحفظات متعددة وأعرب عن قلقه مثل غيره من أطراف الاتفاقية المنشطة. أشار مشار إلى أن محادثات نيروبي تسير في اتجاه إحلال اتفاقية السلام المنشطة باتفاق جديد، مما يمكن أن يقوض دورهم في المرحلة الجديدة.

في تقديري، هذا القلق مبرر من ناحية، ولكنه غير قوي في ظل وجود ممثلين لأطراف اتفاقية السلام المنشطة في محادثات نيروبي كحكومة الوحدة الوطنية، الذين لهم تأثير بالغ في كيفية رسم مستقبل جنوب السودان. بالرغم من طبيعة القلق، فإن جنوب السودان بحاجة ماسة إلى عملية توافق سياسي في أقرب وقت ممكن لأسباب تتعلق بقضايا الشعب وبقاء الدولة ككيان متماسك. مظاهر الانهيار الحالية تتطلب توافقاً سياسياً شاملاً لتجنب الفشل والانهيار الكامل.لذا، فإن وجود ممثلين من حكومة الوحدة الوطنية في محادثات نيروبي يمكن أن يكون عامل استقرار، حيث يمكنهم العمل على ضمان تنفيذ الاتفاقات المتوقعة والبحث عن حلول توافقية. باعتبار ان التوافق السياسي ضروري للحفاظ على تماسك الدولة وضمان مستقبل أفضل للشعب.

أهمية المنبر:

ففي هذا الصدد وفي سبيل البحث عن الاستقرار السياسي وإنهاء الحروب الدائمة في البلاد، تبرز أهمية منبر نيروبي كمنصة حوارية حاسمة. إن الضرورة تجبر جميع الأطراف على اعتماد منهج الحوار والتداول الإيجابي في قضايا الحكم بدلاً من اللجوء إلى النزاعات المسلحة. هذه المحادثات الجارية في نيروبي في تصوري تحمل مكاسب كبيرة لأنها تركز على قضايا الاستقرار السياسي وتقليل مستقبل حدة النزاعات المسلحة. إن تحقيق ذلك يتطلب تغيير طرق تنفيذ الاتفاقيات، خاصة من الجانب الحكومي، الذي اتصف بنقض العهود والمواثيق على مر التاريخ.

أهمية منبر نيروبي تكمن في كونه فرصة لإعادة تشكيل النظام الحاكم في جنوب السودان، وتغيير نهج التعامل مع قضايا الحكم. يمكن لهذا المنبر أن يكون مدخلاً لتغيير اللاعبين السياسيين، وإدخال قادة وطنيين جدد يمكن أن يثق بهم الشعب ويحققون تطلعاته.

على الرغم من تحفظ العديد من المجموعات السياسية المعارضة، مثل جبهة الخلاص بقيادة الجنرال توماس سريلو، التي تفتقر إلى الثقة في نظام كير، يجب على نظام كير أن يسعى جاهداً للنظر إلى هذه الأجسام المعارضة كشركاء في عملية البناء الوطني ولهم الحق في المشاركة السياسية.

منبر نيروبي يمكن أن يكون فرصة لتأسيس نظام حكم مضبوط وفق الدستور الدائم، يتضمن قضايا الحكم، العدالة الاجتماعية، المشاركة في السلطة، وقضايا الحرية السياسية والمدنية.إذ ان هذه المبادئ من شأنها أن تساهم في التحول الديمقراطي الضروري للحفاظ على استقرار البلاد ومنع التشظي المستقبلي. كذلك إن الاعتراف بالأطراف المعارضة كشركاء أساسيين في بناء الوطن يمكن أن يعزز من فرص نجاح المحادثات وتحقيق استقرار دائم في جنوب السودان.

على ضوء ما سبق، في تقديري أن منبر نيروبي يعد إحدى المحطات المهمة في تاريخ جنوب السودان التي من المهم الوقوف عندها. لاسباب متعلقة بحجم التحديات التي تواجه النظام في المقام الأول، والشعب بشكل خاص،التي ربما سوف يجعل البلاد تنتقل إلى مرحلة أكثر خطورة من أي وقت مضى. يتعين على كل الفاعلين إيجاد إطار وطني خالص يمكن أن يجمعهم، بحيث يُبنى على أساس فلسفي يقي البلاد من الانهيار ويمنع الشعب من اللجوء إلى التسول في البلدان المجاورة بسبب الأوضاع المعيشية.

الإقليم نفسه بات محل قلق بسبب التحديات الأمنية الصعبة التي يمر بها، مثل النزاع السياسي العنيف في السودان. لذلك، تأتي أهمية منبر نيروبي في كونه منصة للتوصل إلى اتفاق سياسي يمكن أن يحقق الاستقرار للبلاد.

-ايضا يجب أن يكون هذا الاتفاق شاملاً ويتضمن آليات تنفيذ واضحة وملزمة للجميع، بما في ذلك الحكومة والمعارضة.

-المهم الآن هو أن تتبنى جميع الأطراف رؤية مشتركة لتحقيق السلام والاستقرار، والابتعاد عن الحلول العسكرية. ومن وناحية اخرى على المجتمع الدولي والإقليمي دعم هذه الجهود بجدية، من خلال توفير الدعم السياسي والاقتصادي اللازم لضمان تنفيذ الاتفاقات.

ولاهمية، يتعين على القادة في جنوب السودان إظهار إرادة سياسية حقيقية لتحقيق التغيير والتحول الديمقراطي الذي يتطلع إليه الشعب. لان ي تقديري منبر نيروبي يمكن أن يكون البداية لإعادة بناء الثقة بين الأطراف المتعددة والفاعلة في البلاد، لوضع أسس جديدة لنظام حكم يعزز العدالة والمساواة، ويضمن مشاركة جميع الفئات في العملية السياسية. فهي تمثل فرصة ثمينة لا ينبغي التفريط فيها، حيث يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل لجنوب السودان وشعبه.

للتواصل:bathum44@yahoo.com

تم..

Translate »