حرب 15 أبريل في السودان.. لحظةٌ للمثول أمام التاريخ!  

واجومانيوز

بقلم: محمد أبكر موسى

توطئة:
كان وما يزال المجتمع البشري، منذ زمنٍ سحيق، يتكيء في صيرورته اللانهائية، على سرديّة التوتر والصراع. وقد كان هذا الأخير، السمة الأكثر حضوراً في سيرورة حياة البشر. حيث نجد صراعاتٍ فيما بين بني البشر أنفسهم من ناحية، وبينهم والطبيعة من ناحية أخرى، ومن ناصيّة ثالثة بين الإنسان نفسه وبنات أفكاره. ثم مع مرور الوقت، ارتفع مستوى الصراع، واتسعت دوائره، وتعقدت تفاصيله. خاصةً مع بدء نحت سرديّة الدولة وتكوينها وسُبل تطورها، وبناء المجتمع، وآليات تنميته بمفاهيم الاجتماعي السياسي الحديث ومقولاته وتاؤيلاته ذات الحمولات اللامحدودة.
ولكن الأمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وانطلاق موجة الثورات العالمية الكبرى، وبفضل منجزاتها الهائلة، وما اعقبتها من سرديات “ما بعد”، تحوّلت مقولة “الصراع” إلى نواصٍ أكثر عمقاً وتعقيدا. فإذ أصبح العالم يعيش حالة تحوّلات جوهرية ذات تغيرات حاسمة. بل غدا يشهد وضعيّة تنافسٍ حاد وتدافعٍ ملتهب، وتوترات محتدمة، وصراعاتٍ داميّة، تأخد أشكالاً مختلفة، ومفاهيماً متمايزة ومسمياتٍ متباينة، بين كل حينٍ وآخر، وبين عدة مستويات؛ من أبسطها بين أفراد فيما بينهم إلى أكبرها بين مجموعة دول. بل أن مقولة “الحرب الكونيّة” قد بدأت تأخذ حيزها المفاهيميّ والعمليّ في قاموس التطور الإنساني.
وفي سبيل محاولة بناء وتوزيع ومشروعيّة استخدام “القوة والنفوذ” بالنسبة للدول، وفرص تنميتهما باستمرار، وحمايتهما من الضعف والإنهيار، دخل العالم بشماله وجنوبه العالميين في دوامة صراعاتٍ غاية في التعقيد والشدة والعنف، خلّفت بدورها لحظات فارقة في صفحات التاريخ. حيث نهضت بسببها دولٌ من الركام، فيما سقطت أخرى إلى الهاوية. حضاراتٌ قامت وما تزال مستمرة في العطاء بينما ضعفت أخرى فغبرت أخبارها واصبحت من أحداث ذاكرة الماضي. ومجتمعاتٌ كانت تُشار إليها بالنموذج في العطاء والإنتاج قد غابت شمسها بسطوع أضواء مجتمعاتٍ أخرى. وهكذا تبدو أن الحرب (في معناها المجرد) ليست أكثر من مجرد معادلة ذات كفتان وأكثر، تتأجج وتتأرجح فقط بناءً على كيفية إدارتها، وكيف يُنظر إلى مدخلاتها ومآلاتها.

منهجيّة التناول:

     في هذه المقولة، بمقتربٍ وصفي تحليليّ، نسعى إلى مناقشة وفحص “تاريخيّة” حرب 15 أبريل 2023 في السودان. نطمح من خلال مقاربة حرجة إلى تشريح هياكل هذه الحرب، ومحاولة تحليلها ونقدها وتحويل سرديتها من خانة حدث مجرد إلى واقعة يمكن التحكم فيها وخلق ثمار من شدتها. طمعاً في أن نقرأ خياراتها المتاحة والمتوقعة، والتي تذهب في مسرح إمكانية واحتمالات بناء سرديّة مختلفة أمام التاريخ. سرديّة تحاول جاهدةً الخروج عما ألفه السودانيون من وضعياتٍ – بمختلف الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على حُكم سودان ما بعد الإستقلال – لم تخرج أبداً عن دوائر العنف والقهر والاستبداد.
نحاول متسلحين بمنظارٍ نقديّ، الغوص في لُجج تساؤلاتٍ متداخلة متشابكة نعتبرها المدخل منهجيّاً، صوب فهم درس هذه الحرب. نطمح خلال هذه المداخلة إلى التجديف عميقاً في لجة استفهامات مربكة حرجة تطرق كثيراً نافذة السؤال من قبيل، هل بإستطاعة هذه الحرب أن تكتب سرديةً مغايرة، تأخذ بها السودان إلى ناصية الحلم السوداني بإعادة تكوين الدولة – بجانب إعادة بناء مجتمعاتها الغارقة غاية في التنوع والتعدد والاختلاف – على أسس ومباديء عقلانية عادلة، ومستندة على عوامل موضوعيّة، ومتكئة على محددات منطقيّة جيدة؟. هل ستكون هذه الحرب هي الآخيرة والفاصلة في سيرورة الحروب التي لطالما اقعدت البلاد عن النهضة والتقدم والازدهار عقوداً طويلة؟. هل ستصبح هذه الحرب، “تلك” اللحظة الحاسمة التي بها/من خلالها نتمكّن من إحداث تحوّلات كبرى في مقولة الدولة الوطنيّة الحديثة؟. هل ستقرأ هذه الحرب تجارب الآخرين السابقين فتقرر كتابة تجربة مغايرة في دفتر الحضور التاريخيّ في ناصيّة الصراع؟.

الخلل الهيكليّ في تشكّل السودان كدولة:

     كانت لحظة غزو التركي المصري 1821 لأراضي مرامية شاسعة تقتطنها شعوباً وقبائلاً متنوعة كانت متضافرة في شكل ممالك وسلطنات متمايزة، وبيوتات اجتماعية مختلفة، على طول وعرض تلك المساحات، ثم قيام المستعمِر تالياً على توحيدها في إطار سياسي ذو جغرافيا استمرت في شكل “دولة استعماريّة مصطنعة” إلى أن سقطت على يد الثورة المهدية، ثم لحظة الاستعمار الإنجليزي التركي للبلاد 1899 بعد إسقاطه للدولة المهدية، تعتبران من أهم اللحظات الفاصلة والحاسمة في سرديّة تشكيل الدولة السودانيّة الوطنية القُطريّة الحديثة. وقد أثرت تلك اللحظتان بشكل مركزيّ في بناء المجتمعات السودانيّة، وإعادة تشكيلها من جديد على أسس ومفاهيم حديثة.
ولكن الذي أتضح لاحقاً أن تلك اللحظتان الاستعماريتان لم تؤد – بشكلٍ أساسيّ – إلى صناعة تمازج جديد وبوتقة اجتماعية مغايرة صالحة مستندة على التنوع الهائل التي تتمتع بها قبلاً شعوب ومجتمعات السودان من الأساس فحسب، إنما اسهمت بصورةٍ حاسمة في خلق دولةٍ وفق عوامل غير ناضجة وظروف غير موضوعية بما يكفي لتسهم في تكوين دولةٍ حديثة ذات شروط عقلانيّة عادلة. إنما أفضت – تلك اللحظتان بصورةٍ جوهريّة – إلى تأسيس دولة مختلة هيكلياً؛ تقوم على أشكال سلطة مؤذية، ونفوذ غير عادل، وأنماط اقتصاديّة سياسيّة (كمؤسسة الجلابة، وتجارة الرق) ومعايير اجتماعية وممارسات أخلاقية مغايرة لمّا ألفها تلك المجتمعات. ممارسات مصنوعة وضعت فوق عناصر ذات أصالة ووتاريخ متجذر. وقد سعت بتلك الطرق لإنتاج سلوكيات وممارسات خداعة، ومؤسسات عميلة محبوكة سلفاً بمكرٍ وخبث (كمؤسسة الأفنديّة)؛ عُملاء الإمبريالية وشغيليها.
ولكن يبقى أن المحك الرئيس في هذه المسألة، في أنه رغم إدراك النخبة السودانيّة – وهم الجلابة، الأفنديّة، والنادي السياسيّ التقليدي – بذلك “الإختلال البنيويّ” الذي خلقتها السياسات الاستعماريّة في هيكل الدولة وبنية المجتمع وخلّفتها في سودان ما بعد الاستقلال، حاولت بجهودٍ مكلفة للغاية، بل قاتلت باستماتةٍ لافتة في سبيل الحفاظ على تلك الوضعيّة الفاسدة، أو على المحافظة على استمراريتها لأطول فترة ممكنة على الأقل.
وبالتالي ظلت الدولة – وبسبب عنف هذه النخبة بشكلٍ رئيسي – تعاني باستمرار من اندلاع حروب أهلية مستمرة في مناطق الهشاشة أهمها؛ الإقليم الغربي، النيل الأزرق، وجنوب كردفان. ظلت تعاني من اشتعال نزاعات قبليّة متواصلة من حينٍ لآخر نتيجةً لغياب نظريّةٍ سودانيّة عمليّة تسعى إلى بناء مشروع سياسي اجتماعي اقتصادي متكامل شامل ينهض بالبلاد في غضون أعوام. وقد تسبب غياب ذلك المشروع الوطني – الذي يمكن ان يذوّب تناقضات اجتماعيّة قديمة، وتقضي على إشكالات ثقافيّة موروثة – في خلق أزمات تعقدت بمرور الوقت، بل ان ذلك الغياب ساهم بشكل مركزي في تعزيز توترات اجتماعية وصراعات سياسية، وازمات اقتصادية ظلت تتفاقم بشدة، وتتأثر بها البلاد على كافة الأوضاع مع كل حكومة تأتي إلى سدة الحُكم وتذهب.
وكنتيجة من نتائج تلك الوضعية المختلة، شهدت الدولة حتى قبل أن تستقل بشكل كامل ونهائي من الاستعمار، في اغسطس من العام 1955، أول تمرد رسميّ عليها، وهي  تمرد فرقة الاستوائيّة، والتي كانت بمثابة أول عمل مسلح ضد الدولة وسياساتها غير العادلة. وهو تمردٌ يعتبر انعكاساً واضحاً لغضب الإنسان في جنوب البلاد تجاه عنف الدولة وقهرها، وتجاه الوضعية السياسيّة غير المنصفة للجنوب. بل أن ذلك التمرد، يعتبر شاهداً مباشراً ودليلاً دامغاً على واقع هشاشة التمازج السياسي الواهن من الأساس – الذي صنعه الاستعمار، واستمرت “النخبة المحليّة” في تثبيتها واستغلالها في بناء مؤسسات انتهازيّة نافذة لها – وضعف ولاء المكونات الاجتماعيّة للدولة مقابل متانتها للقوالب الاجتماعية الأولية والروابط البسيطة كالرجوع إلى لباس القبيلة، والزود بالإثنية، والولاء الكامل لزعيم عشيرة بعينها لا لكيان الدولة وسيادتها، والتي هي مفقودة بالأساس في هذه الحالة. وأكثر من ذلك، يذهب البعض إلى اعتبار أن ذلك التمرد العسكري ضد الدولة، كان البذرة الأولى لضعف صمود البلاد موحدة. بل أنه الفعل الذي مهّد الطريق مسبقاً لانشطار الدولة إلى جزئين في يوليو عام 2011 بعد أن تلاشت إمكانية البقاء موحدة من أيدي الجميع.
بعد انفصال الجنوب – والذي فتح الباب مشرعاً لتوّسع النزعة الانفصاليّة لبقية المناطق التي تعاني بشدة من الإقصاء والتهميش الممنهج والشامل – اتضح للجميع أن تلك اللحظة لم تكن العنصر الأساس في استمرار المسالة السودانية المختلة، بل كانت واحدة من جملة تناقضات كامنة ظلت تتكاثر بخشونة على هيكل الدولة الأم، وبنيّة المجتمع وعوامل نهضته. اتضح جلياً أن ذلك الصراع المعقد والشائك – ذو الأبعاد الثقافية والإثنية والسياسيّة والاقتصادية والدينية، والاخلاقية – والذي قسّم البلاد خطياً إلى جنوباً وشمال، لم يكن سوى “فقاعةً” فكرية، “فخاً” مفاهيميّاً وقعت في شباكه الكثير من النخب بمختلف مشاربهم، وتمايز مصالحهم، وتباين أيديولوجياتهم.

•  تجاربٌ عنيفة أنتجت تحوّلات مصيريّة:

     منذ بداية التاريخ ظلت سرديّة “الصراع والتوتر العنيف” أهم سمة من سمات صيرورة التطور الإنساني. فمنذ زمنٍ بعيد،  ظل تاريخ المجتمعات يشهد تكاثراً مخيفاً لصراعاتٍ ونزاعاتٍ في كل حين وآخر. لدرجة أنه يمكن القول أن “تاريخيّة” المجتمعات لم تكن وما تزال سوى صفحةً سوداء تئن بشدة من نزعة التآمر والكيد والخداع. إنها سيرورة تكاد أن تصبح ليست أكثر من مجرد سلسلة أحداث ووقائع لا تخرج أبداً عن دائرة الموت الممنهج، والقتل المدبر، والإغتيالات – بمختلف اشكالها، وتباين أهدافها – المحبوكة بخبث ومكر وشيطانيّة. بل يمكن القول، انه ليس أكثر من إطار زمني يتضمن ليس أكثر من سلسلة متحركة بلا توقف لإنتهاك حقوق الإنسان. وهكذا فالتاريخ البشري يبدوأنه  ليس أكثر من تاريخ عنف وقهر وحروب بامتياز.
وبالتالي يمكننا الذهاب إلى أنه، كم يُصعب جداً، بل يستعسر كثيراً إن لم يصل الأمر إلى الاستحالة، إيجاد مجتمع بشري – منذ نشوء التاريخ الإنساني – لم يمر بتجربة حرب طوال تاريخه الممتد. فكل المجتمعات واجهت هذه المسألة تقريباً، وهناك ما سوف تواجهها طال الزمن أو قصر. إنه أمرٌ يكاد أن يكون “حتمي” الحدوث. يبدو للذاكرة العقلية، كمسألةٌ “قدريّة”، يجب ولابد من التحقق على كل تجمع بشري يحاول الوصول صوب الإرتقاء اللائق المنشود لقيمه وأخلاقه الإنسانيّة المطلقة.
وقد كانت حروب بعض المجتمعات “حدثاً مصيرياً”، وفصلاً حاسماً في صفحات تطورها الفكري والسياسي، وتحولاتها الاجتماعية والاقتصادية، وتحولاً فارقاً في طرائف تفكيرها، وأنساقها الثقافية أيضاً. فالذاكرة التاريخيّة للمجتمعات تخبرنا بتفاصيلٍ حاسمة ومعقدة ودقيقة بل ومخيفة، أنه كم شكلت بعض الحروب لبعض المجتمعات، تحدياً حاسماً للخروج منها للنضهة أم الانغماس في وحل الخوف من المجهول، فتتقهقر نحو الهاوية؛ إلى أن تضعف تدريجياً، فتنهار سريعاً، فتموت، وتنطوي صفحتها في التاريخ.
فبعض المجتمعات من خلال حكوماتها وأنظمتها السياسيّة، استطاعت –  بتضافر جهودٍ هائلة، وتعاون إمكانيات ضخمة بجانب تحليها برغبةٍ أكيدة وإرادةٍ مشتعلة – أن تخلق من وحل حروبها فرصاً مصيريّة لكتابة تاريخٍ مغاير، وصناعة مستقبلاً يكون مدخلاً لتنميتها المستدامة الشاملة. بعضها استطاعت بجهودٍ مضنية أن تصنع لها تاريخاً مختلفاً عما سبق؛ أن تخلق صفحةً جديدة لها، تكتب فيها تاريخاً جديداً. بينما بعضها الأخرى كان الأمر قاسياً عليها بما يكفي؛ فلم تستطيع الصمود. فإذ غارت قوتها فتدحرجت نحو دهاليز الإنهيار الكليّ لبنية المجتمع، والضعف الشامل لهيكل الدولة؛ إلى أن سقط الأول، فماتت الثانية تلقائياً. فأخبار الحضارة البابليّة، والدولة الأمويّة، والأمة الإسلاميّة الأولى، والحضارات السودانيّة القديمة، كالنوبيّة، والسلطنة الزرقاء، أوضح شواهد على ما ذهبنا إليه، في عملية نشوء الدولة وموتها.

• نماذج حروبٌ خلقت فرقاً حاسماً:

     وهكذا كما سردنا كثيراً أعلاه، تزخر الذاكرة البشريّة بتجارب حروب وصراعات خلّفت نتائجاً مختلفة على المدى القريب والبعيد؛ بعضها انتجت كوارثاً في غاية القسوة والشدة، بينما بعضها الأخرى اثمرت فرقاً تغيرت من خلاله الدولة والمجتمع بصورةٍ مصيريّة حاسمة، فيما ثمة حروبٌ خلقت اختلافاً لافتاً في نتائجها سواء كانت في السلب أو الإيجاب.
ومن أهم النماذج لتلك الحروب والصراعات؛ الحرب الأهلية في صربيا، مثلاً، كثيراً ما تغيرت الدولة والمجتمع فيما بعد، بعدما ما تمرّغ الجميع في وحل دماء لزجة. حربٌ أهليّة اندلعت في البلاد على أسس عرقيّة بعد تفكك جمهورية يوغوسلافيا الإتحادية، مطلع تسعنيات القرن الماضي، ارتكب الصرب فيها مجازر دموية ضد مسلميّ البوسنة والهرسك، ما أدى خلال اربع سنوات إلى مقتل حوالي 300 ألف شخص، وتهجير قرابة 1.5 مليون.
والحرب شبه الأهليّة التي اندلعت في غواتيمالا أيضاً؛ حيث في عام  1982 وقع انقلاب عسكري، خاض الجيش وجهاز الشرطة حرباً عشواء ضد السكان الأصليين، وقعت خلالها 200 ألف قتيل. حرباً كانت للدعم الإسرائلي اليد اليمنى فيها؛ حيث أقدمت قرابة 300 مدرباً ومستشاراً إسرائيلياً إلي القوات الانقلابيّة الغواتيمالية، وبالتالي وقع الانقلاب وشُنت الحرب بكل سلاسة وسهولة، لأنهم تلقوا تدريباً إسرائيلياً مكثفاً للقيام بذلك.
والحرب الأهليّة التي وقعت في السلفادور؛ إذ وقعت حرباً ضروساً بين الحكومة العسكرية ممثلة لطبقة الملاك اليمينية، ومنظمات يسارية ممثلة لطبقة الفلاحين والسكان الأصليين، وقد استمرت أكثر من 12 عاماً، حيث استهدف الجيش بشكل متعمد السكان المدنيين. وقد راح فيها أكثر 75 ألف شخص غير المفقودين.
نموذج آخر هو الحرب الأهلية الأمريكية، التي كانت أكثر من حرباً قيميّة بامتياز، والتي انتجت الاتحاد الفيدرالي الأمريكي لاحقاً. كانت صراعاً عنيفاً بين الجنوب الذي أراد الاستمرار على البنية الاجتماعيّة والاقتصادية القديمة والحفاظ عليها، وهي بنية كانت قائمة على تجارة الرق وممارسة العنصريّة وإظهار التفوق العرقي، ومقابله الشمال؛ العالم المنفتح على قيم الليبراليّة الكلاسيكيّة التي خلّفها عصر التنوير، والتحوّلات المفاهيميّة الحاسمة والسرديات الكبرى التي أحدثتها الثورة الفرنسيّة، والتي تعززت لاحقاً في سيرورة الاجتماع السياسي للبشريّة حتى الآن.
ونموذج الحرب الأهليّة الرواندية أيضاً، والتي تعتبر أعنف حرب إبادة جماعية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي اندلعت من خلال أعمال العنف والتمييز القبليّ التي شنتها القوات الحكومية مدعومة بمناصريها من قبيلة الهوتو الحاكمة. إنها حربٌ اشتعلت في منتصف عام 1994، والتي قُتل فيها أكثر من 800 ألف شخص، غالبيتهم من قبيلة التوتسي ذات الأقلية. والتي استعملت فيها الأسلحة اليدوية والسواطير والسكاكين بجانب قوة البندقيّة.
كانت حربٌ أهليّة تعتبر الأكثر تجسيداً لإشكال جدليّة القبيلة والسياسة في افريقيا، بل الاكثر تعرياً لعنف استغلال عنصر الدم والأسرة والعشيرة في اروقة الدولة؛ أي أنه عنف توظيف الايدولوجيات السياسيّة في الوحل الاجتماعي والتصدعات الثقافية وتوترات السرديّة السياسيّة في إفريقيا ما بعد الاستقلال.
ولكن بعد تلك المجازر والدماء التي سالت بكثافةٍ مفظعة، استطاعت رواندا الدولة أن تخرج من وحل العنف والكراهية الملوثة بصبغة القبليّة لتسلك تدريجياً مسار المصالحة الاجتماعية أولاً، والعدالة والعدالة الانتقاليّة والقانون، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي للمجتمع وإعادة ترتيب الحهاز المؤسسي للدولة. استطاعت بتضافر جهود كبيرة الذهاب بعيداً في مسارات تنموية متقدمة مزدهرة برؤى استراتيجيّة متماسكة للدولة، ذلك بقيادة الرئيس الروانديّ الحالي “بول كاغامي”.

تساؤلات حرجة في درس الحرب:

وبالتالي، نلاحظ أنه كم وقعت حروب داخلية أهليّة كثيرة في مناطق شتى وأزمان مختلفة. بعضها عملت إلى إعادة تعريف الاجتماع السياسي من جديد وبعضها الأخرى فشلت. ولكن تظل النقطة الأهم في التجارب التي نجحت في إعادة التأسيس، هي أن تلك التي خلقت تحوّلات إيجابية حاسمة في صيرورة الدولة، كانت حروبٌ تمتلك وجهات نظر مغايرة؛ تتمتع بمناظير جديدة مشروعة، وقضايا عادلة. انها كانت حروباً ذات أبعاد مفاهيميّة ومذهبيّة، كان أطرافها يحملون أفكاراً وقيماً واتجاهات، ومشاريع تنموية متماسكة، خاضوا النضال ليدافعوا عنها، اشتعلوا صراعاتٍ عنيفة في سبيل محاولة إعادة بناء وتوزيع القوة والسلطة والنفوذ بشكل عادل وقانونيّ. وهذه النقطة التي جلعت بعض الحروب لم تضع اوزارها بشكل عاجل وسريع، بل ان بعضها استمرت في حصد الأرواح واستنفاد الطاقات، واتسعلاك الموارد لفترةٍ طويلة. بسبب هذه النطقة صمدت بعض الحروب لمدة أطول مما كان يتصوّرها أطرافها حتى. وقد شكلت نقطة صمودهم واستمراريّة نضالهم، وجعلت مواقفهم أن تقوى وتتصلب لعقود كما نجدها في الحرب الأهليّة بين نظام الإنقاذ والحركة الشعبية في السودان القديم.
وبالتالي تتجلى أهم الأسئلة الكاسرة، والتي تلّح بشخونة على دفاتر أطراف حرب 15 أبريل 2023 في السودان، (إنهم بالتأكيد ليسوا مجرد طرفين فقط، بل مجموعة أطراف تتشابك مصالحهم، وتتقاطع)؛ هل يمتلك أطراف هذه  الخرب تلك النقطة الأهم التي يمكن أن تحوّل مسار هذه الحرب إلى مسار آخر إيجابي بعد أن يضعون أسلحتهم أرضاً لإنتهائها؟، هل بالفعل تتمتع هذه الحرب –  داخلياً باعتبارها عمليّة – بما يمكن أن تحوّلها من أن تكون النطقة السوداء الأخيرة في دفاتر الصراعات السياسيّة العبثيّة في البلاد؟. هل يتأمل أطراف هذه الحرب خيارات تحويلها إلى وضعيّة أخرى مختلفة غير ما تظهره مؤشرات هالكة؟. هل ستأتي ضغوط القوى المدنيّة الوطنيّة بأكُولُها؛ هل ستخلق جهودها فرقاً إيجابياً كبيراً يناقش المشكلة السودانية بمختلف قضاياها ويحسمها بشكل قاطع؟. هل بالفعل ستخلّف هذه الحرب وضعاً جديداً في صالح الجميع إيجاباً بعد إنهائها؟. هل نحن على موعد حقيقي مع وضعية جديدة مخالفة تماماً لكل ما انتجتها وخلّفتها هذه الحرب وسابقاتها؟، هل سنكون على انتظار ذلك الأمل المفقود؛ الامل الكبير بالسودان الجديد بعد إنهاء أو توقف هذه الحرب نهائياً؟.

أوهام وإدعاءات كاذبة:

     يحاول كل طرف (بمجموعته) من أطراف هذه الحرب، بمجهودات مضنيّة للغاية، ترويج مؤذٍ، والدعاية أن هذه الحرب يعتبر صراعاً على قيم وأخلاق ومباديء؛ إنها اندلعت لأجل محددات اجتماعية اقتصادية وثقافية ما؛ قامت بغيّة إجلاء وتوضيح ومناهضة تظلمات سياسيّة بعينها؛ وبالتالي انها حربًا مشروعاً يجد مشروعيتها من أنها تحاول التأسيس لوضعيّة جديدة مخالفة تماماً لما قبلها من وضعيات غير عادلة، ظل الجميع يزرح تحت رحمتها لعقودٍ طويلة.
يدرك الجميع سرديّة أن كل أطراف هذه الحرب (الجيش كجهة، والدعم السريع كجهة مقابلة) انهم في اوهامٍ يتعايشون وفي تصورات طوباوية يغوصون رؤوسهم. ينظر الكثير من السودانيين، أن لم يكن جميعهم، بمستويات إدراك وفهم وتحليل متفاوتة، إلى أن يتصوّره طرفي هذه الحرب ليس أكثر من حرب كاذبة، وصراعاً سياسياً ذو مستوى سياسي نخبوي بإمتياز. إنهم يفهمون أنه صراع حول حصص السلطة، وموازيين القوى والنفوذ. وبالتالي فإنهم يبدون أنهم مقتنعين تماماً بكل ما تبثه أجهزة إعلامهما من دعايات مؤدلجة مضللة، وترويج مغرض مغطى بمجموعة مفاهيم براقة فخة، وعبارات طنانة ساذجة، وسياسة مفاهيميّة محددة أهدافها االسياسيّة المغرضة مسبقاً. كلامهما لا تخرج ابداً عن دائرة انها مجرد دعاية حربيّة لا تهدف إلا إلى صناعة خطاب استقطابيّ محدد يسعون إلى إدراجه في رؤوس الجميع بلا هوادةٍ بلا اكثرات.
في اعتقادنا، وهنا يتفق معنا آخرون كُثر، أن هذه الحرب هي بعيدة كل البُعد عن أن تكون سرديّة قيميّة ذات قضايا عادلة؛ إنها بمستوى مقاربةٍ جديّة ما لا تحمل أي أبعاداً أخلاقيّة جديدة أو قديمة أو مستحدثة. إن ما تقوله أطراف هذه الحرب، لا تشكل أكثر من إدعاءات وانطباعات وتصوّرات واهمة لا يمكن الاعتماد عليها، ولا يمكن الاعتماد بها أو العمل على أساسه، أو البناء عليه في أيّ مقاربة أو قراءة أو تأسيس أو عمل. فكلام الجيش أنه يدافع عن  بقاء الدولة على أساس أنه بمثابة أحد عناصر تشكّل الدولة واستمراريتها وتطورها، وأنه يناضب لأجل مؤسسيته ونظاميته، لا يذهب بعيداً عن انه لا يعدو غير أنه خطاباً استقطابياً ايديولوجيّاً سياسياً مصنوع.
بينما كلام مليشيا الدعم السريع أنه تخوض هذه الحرب لأجل الديمقراطية والحكم المدني، وأنها تحارب لأجل إستعادة إرادة الشعب في التمتع بحرية صوته في اختيار من يحكمه، ومن ينوب عنه في أجهزة ومؤسسات الدولة، ليس أكثر من محاولة بيع “كلاماً براقاً” يمكن أن يهضمه أي شخص. إنها مجرد إدعاءات كاذبة. إنها ليس أكثر من محاولة تسويق رخيص لذات أشواق واتجاهات وامنيات المواطن السودانيّ المأمولة منذ زمن بعيد. انها ليس أكثر من استراتيجية مغرضة تسعى إلى إخفاء نوايا ومصالح ذاتية ودوافع ضيقة لهذه المليشيا؛ دوافعها في خلق وضعيّة إدارية مستقلة لها عن بقية مؤسسات الدولة،  ومن خلالها تعمل على السيطرة على أهم نوافذ السلطة والثروة والنفوذ بالبلاد. كل ذلك، استجلت للجميع في عز النهار أن هذه الحرب ليست أكثر من حرب مصالح ضيفة؛ حربٌ عبثيّة خالصة؛ حرب سلطويّة بامتياز.
لما يقارب عاماً كاملاً، أيقن الجميع بأدلة مشاهدة – الكثير من السودانيّين وغيرهم – أن كل ما يبثه كل طرف من طرفيّ هذه الحرب، ليس أكثر من إدعاءات ودعاية مغرضة، وأنه لا يملك أي واحداً منهما (مؤسسة الجيش، مليشيا الدعم السريع) رصيداً – على عدة مستويات وأبعاد – كافياً، أو صفحات تاريخيّة ناصعة مشرفة، أو حتى مشروعًا فكريًا تنمويًا للمجتمع والدولة، ليحظو برضى وثقة جمهور الشعب السوداني العريض. فكلتا الجهتين مشوهتين، صفحتهما ملوثة تاريخياً بشكل كبير ولافت. أنهما لا يملكا أي مستوى ثقة كافٍ يمكن من خلاله البناء عليه أو الاتكال على أريكته، إلا مؤسسة الجيش بمستوى ما، وبدرجة تقييم ما في سياق محدد. بينما ميليشيا الدعم السريع فحدّث عنها ولا حرج، يكفي أن تقول “ميليشيا” في مقدمة إدراج أو تقديم هذه القوات المرتزقة.
ويعلم الكثير أن مؤسسة الجيش –  وبعيداً عن بعض المنطعفات التاريخية كلحظات الثورات الشعبية في سودان ما بعد الاستقلال، التي كانت فرصاً كبيرة للعب أدواراً وطنيّة مشرفة – تعاني كثيراً من إختلالات بنيويّة حرجة؛ تزخر ذاكرتها بخطوط ضخمة في القول والفعل وممارسات كلها تصب في خانة اللوثة السياسيّة، ومحاولات التوغل والتخلل والصراع حول السلطة والنفوذ والثروة، لدرجة أن أصبحت هذه المؤسسة من أهم وأسوأ وأعنف (بجانب المؤسسات الأمنيّة والشرطيّة) مؤسسات الدولة السودانيّة ما بعد الإستقلال حيال التعامل مع الشعب، مؤسسة عنيفة خاضت جميع حروبها ضد المجتمعات السودانيّة ومواطنيّها وسُكانها البسطاء، المقهورين، والمهمشيين. أكبر معاركها خاضتها ضد هؤلاء. وحيث أصبحت من أهم اللاعبين الرئيسيين في اللعبة السياسيّة في سودان ما بعد الإستقلال. وبالتالي فإن هكذا تاريخها الملوّث بعرق ودماء الضحايا الأبرياء، خلق فجوةً عميقة بينها وبين الشعب السودانيّ كم يصعب ردمها. وأصبح الأمر كم صعباً للغاية أن تفهم أي موقف لها خارج سياق ظاهرة الصراع حول السلطة والثروة.
بين الحديث عن مليشيا الدعم السريع، لن يكن سوى ضرباً من ضروب الحديث المكرر الممل المعروف لدى الجميع. فهذه القوات ليست أكثر من مأساة حقيقية خُلقت بشكل غير مقصود فأصبح عبء وحمل ثقيل وشر مسعير يسعى الجميع لتفاديه. إنها أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتها النخبة السياسيّة بصحبة مؤسسة الجيش وبقية حاشيتها؛ انها وجه من وجوه ممارسة اللعبة السياسيّة بمناظير مصالح ضيقة، وهوى، ووجهات نظر قاصرة وانتهازيّة. انها ليس من مجرد خطيئة سرديّة الدولة في مفهومها السياسيّ المجرد من حمولات القيم والأخلاق والأدب الإنسانيّ. ويبقى خطابها المتكرر عن ادعائها الكاذب، وزعمها الضيّق أنها تخوض حرب الدفاع عن الديمقراطية ليس سوى ضرباً من ضروب العبث في الحديث، ونقص حيلة في الخطاب، واستغلال ظرف طاريء غير مشروع بشكلٍ شيطانيّ.

• خيارات لسودان ما بعد هذه الحرب:

رغم ضيق مساحة إيجاد سردية متماسكة ولو كانت متخيلة عن فرص تحويل هذه الحرب إلى وضعيّة أخرى جديدة لينعم السودان بما يستحق حقاً، ورغم صعوبة إيجاد ومشاهدة مؤشرات ما لتصوّر سودان ما بعد هذه الحرب، وكيف يكون، فإننا نعتقد أنه ثمة عدة خطوط اذا ما قُرأت بشكل مغاير عميق وبصورة فاحصة مختلفة، يمكن أن نرى أن ثمة خيارات عدة يمكن التأسيس عليها لخلق تلك الفرصة المنتظرة. فرصة بناء السودان من جديد كيفما نريد ونحلم. هناك عدة مداخل خلفتها هذه الحرب يمكن عليها مراجعة وتحويل السردية العادية للحدث إلى سردية جديدة محبوكة بإتقان من ضغط وسباكة عدد من هذه النقاط.
حيث أولاً؛ قسوة تجربة الحرب لبعض المناطق: لقد اختبرت هذه الحرب الكثير المثير مما تخبأه رؤوس الجميع من مخاوف وتصورات واعتقادات ومزاعم وأفكار مغلوطة. إذ طالت انتهاكات هذه الحرب مناطق كانت تعيش في سلام وآمان وكأنها ليست حزءاً من خطوط مناطق اتسمت دوماً بالهشاشة. هذه الحرب أدخلت بعض تلك المناطق في أظافرها، وأخرجت عنها ما تخبأه أمخاخها من اعتقادات مغلوطة بشأن المآسى والحروب وأهوالها في مناطق الشدة كمناطق غرب السودان، جنوب كردفان،  والنيل الأزرق. وبالتالي فهل يمكن أن تكون هذه النطقة إحدى الخيارات الحرجة التي يمكن أن تجبر الجميع على إعادة النظر في رؤية الأشياء بمناظير جديدة تصب في خانة الإرادة الشعبية لإعادة تكوين البلاد بأفكار جديدة متماسكة منطقيّة عقلانيّة عادلة؟.
ثانياً؛ انتهاكات جسيمة طالت الجميع؛ لقد مست هذه الحرب الجميع بمستويات متفاوتة وبطرق مختلفة ومآلات متباينة بالطبع. فالبعض طالته بثقوب عميقة وعطوب ساحقة بينما البعض الآخر، طالته ولكن بخسائر أقل وأوجاع سطحية. وهكذا تتفاون نسب ودرجات الانتهاكات التي اختبرها الجميع بين أقل مستوى بسيط إلى أعلاها عميق وغائر. وخلال هذه الحرب عرف الكثيرون من مناطق السلطة والآمان، إلى أي مدى كانت مناطق الهشاشة تلك، تعاني وتنزف وتتألم من اندلاع الحروب بعد كل هنيهة وأخرى. عرفت بعض المناطق كم أن بضعها كانت تعاني بشدة من ويلات الصراعات العنيفة. وكم أنها اختبرت كافة أشكال الانتهاكات. وبالتالي فهل يمكن أن تكون هذه التجربة القاسيّة على الجميع أن تكون إحدى الخيارات الضاغطة التي يمكن أن يسهن في قيادة الجميع صوب رؤى جديدة بديلة لتصوّر بناء السودان بعد إنهاء هذه الحرب، وكيف يمكن أن يكون؟.
ثالثاً؛ استنزاف الثروات والموارد؛ لقد أدرك الجميع تقريباً، العوام منهم والنخب، كم أن الحروب تستنزف موارد الدولة، وتستهلك ثرواتها في العبث والفوضى فقط. ما يزال يدركون الآن أنه كم أن الحرب هذه استهلكت الكثير الكثير من ثروات الدولة وموارد هذه البلاد. انها ليس أكثر من مجرد خطأ فاضح أرتكبته النخب بمساعدة الكثير من العامة. اتسهلكت هذه الحرب أموال السودانيّين المتوفرة الحيّة في الداخل قبل الخارج في موت مجاني. توقفت خطوط الإنتاج، نُهبت الكثير، ودُمرت الأكثر بشكل كم يصعب إصلاحها في القريب المنظور. وبالتالي، فهل هذه النطقة يمكن أن تلفت إنتباه الجميع نحو إعادة التأمل في هذه البلاد، والتأمل في كيفية إدارتها بشكل مختلف وبنائها بروح وطنية خالصة. وليسرع الجميع الآن نحو إيقاف هذه الحرب وإنهائها أولاً؟.
رابعاً؛ تدمير الدولة وتأخرها: اعتقد ان الجميع يتفق في أنه كم دمرت هذه الحرب السودان كدولة، ناهيك عن اعتباره مكونات اجتماعية ومجتمعات سودانيّة تتمتع بتنوع رهيب، وتعددية هائلة؛ مجموعات تعيش في غاية الإختلاف. ونتفق أيضاً إلى أي مدى ساهمت وما تزال تسهم هذه الحرب في تدمير البلاد وتأخرها عن خطوط التنمية والنماء الشيء الكثير. وقد يدرك الجميع أن الحرب تستهلك في العقول أيضاً كما تستنزف الموارد الطبيعية تماماً. فهذه الحرب أكدت للجميع كيف أن بلادنا كم ستتأخر عن ركب التقدم والازدهار، وكم أن عمليات البناء ستكون رحلةً شاقة ومجهدة ومكلفة للغاية متى ما شرعنا في الانطلاق. يدركون بحرجٍ كم أن محاولة السعى مرةً أخرى لإعادة بناء وتنمية هذه البلاد، ستكون مسألةً طويلة وبطيئة وشائكة وتكتنفها الكثير من العوائق والإشكالات المعقدة. وهكذا فهل سنتفق أن هذه النطقة من أكبر المحددات التي يمكن أن تسهم في توقف هذه الحرب وإنهائها ما سوف تصب في خانة بناء الشروع في إعادة تأسيسها من جديد؟.
خامساً؛ إنحلال قيم المجتمع وتقاليده وأعرافه: لقد عرت هذه الحرب المجتمعات السودانيّة قبل الدولة ومؤسساتها عن قيمها وأخلاقها التي لطالما ألفتها العالم أنها راسخة ومؤمنة ومحمية من أي تغير أو تعديل أو المساس بها. لقد أخرجت هذه الحرب كل الصفات السيئة للعلن وظهرت كم أن مسألة القيم والأخلاق ليست أكثر من قضية وقت وظروف وشروط حياة. وكم اختبرت أيضاً مدى ثباتهم وتضامنهم في الشدة. عرت قيمهم وأخلاقهم وآدابهم عن بكرة ابيها ومن أساسها لدرجة أنه نعتقد أننا نحتاج بالضرورة إلى قراءة ومراجعة وبرمجة وصناعة وتشكيل قيم هذه المجتمعات، وهذه البلاد من جديد بأسس ونظريات وأفكار جديدة. فالمعلوم أنه إذا ذهبت القيم والأخلاق فماذا يمكن أن يتبقى لوجود المجتمع وحضوره في مسرح حياة الإنسانية. فاقيم وحدها ما تبقى الجميع متماسكاً، وحدها ما تجعل للاشياء والحياة والوجود البشري معنىً وقيمة. أنها المعيار الوحيد الذي يُقاس به كافة معايير الحضور البشري. وبالتالي، فهل ستصبح هذه النقطة إحدى أهم المحددات التي تجبر الجميع إلى النظر وإعادة النظر في هذه الحرب لأنهائها لبناء السودان الجديد الذي نحلم به منذ زمن بعيد؟.
سادساً؛ عنف النخبة في العلن؛ كذلك عرت هذه الحرب بشكل فاضح للغاية النخب السودانيّة، السياسية منها والاقتصادية، والاجتماعية أيضاً. كم كشفت هذه نوعية أفكارهم ومعتقداتهم، ودوافعهم ومصالحهم وأهدافهم، وأوضحت بشكل كبير ولافت كيف يفكرون وكيف يُدار هذا البلد. عرت هذه الحرب أوهامهم بشأن علو شأنهم على حساب العامة. أخبرت هذه الحرب بشكل واضح كيف أن النخب السودانيّة عنيفة، وانتهازية، وذوي مصالحهم ذاتيّة ضيقة، يمكن ان يخوضوا حروباً ضد مجتمعاتهم وأهاليهم في سبيل المحافظة عليها، يأكلون النار بغية استمرار مصالحهم في الإنتاج، وفي النمو، وفي التطور. فأدرك الجميع كم هذه النخب هي الخطيئة الكبرى التي يجب التخلص منها، أو مراجعتها بشكل جاد وصادقعلى الأقل. وهكذا فهل هذه النطقة السوداء ستسهم في توحيد الرؤى وتماسكها نخو ضرورة إعادة تعريف معظم المفاهيم والمسميات والألقاب وإعادة التأمل في معاني الكثير من المقولات والمفردات التي تزخر بها أروقتنا الأكاديمية والأدبية والفنية والصحفية، لتكون إحدى نقاط الانطلاق في النظر والتأمل بناء السودان بأفكار ومناظير جديدة مثمرة؟.
سابعاً؛ تآمر السياق الخارجيّ ومطامعه: كذلك لقد كشفت هذه الحرب الدول والحكومات الشريرة والتي هي ضدنا، وأيضاً الدول الصديقة والمتعاونة في تطور بلادنا وفق تبادل مصالح بشكل متوازن ومشروع. عرّفت هذه الحرب حتى بالأعداء والخصوم الذين كانوا يخططون في الخفاء ويلعبون في الغرف المظلمة. عرّفت هؤلاء المنافقين والكذابين والخونة والعملاء سواء من أبنائنا أو من السياق الخارجي. وكشفت كم أنه من الضرورة إعادة تعريف السياق الداخلي قبل الخارجي وضبطه بآليات عقلانية منطقية عادلة. فهل يمكن أن تكون هذه النقطة الحساسة إحدى الخطوط الرئيسة التي عليها يتم التأسيس والتفكير في السودان ما بعد هذه الحرب؟.

الخلاصة:

      وهكذا تأسيساً على كل هذه المعطيات، نرى أنه ثمة خيارات عدة يمكن الاستثمار عليها في إعادة تعريف وتحويل هذه الحرب، والبدء في إنهائها بغية الغاية الكبرى؛ وهي الحلم في إعادة بناء السودان من جديد بأفكار وعقول واستراتجيات جديدة؛ خيارات حيّة، مباشرة، ومرنة، ويمكن تطويعها. خيارات قائمة على عصارة قراءة تجارب الذاكرة البشريّة في الصراع وخوض الحروب. عرفنا خلال هذه المداخلة أي نوافذ يمكن أن تكون الطرح في كيفية الخروج من هذه المعمعة الظلمة، وكيفية العودة إلى الحياة الصحيحة والسليمة والمسالمة لمجتمعاتنا قبل الدولة؟. وادركنا أيضاً كم أن هذه الحرب خطأ يجب تصحيحها بل تكاد أن تصبح خطيئةً عظيمة يجب أن المساهمة بكل الجهود للغفران عنها. ثم تالياً السعي نحو إعادة تكوين هذه الدولة وإعادة تعريف وبناء مجتمعاتنا أيضاً. انها بالفعل قاسيّة طالت الجميع بمستويات متفاوتة ولكن تبقى  النطقة الأهم إن الجميع أختبر المعاناة والشدة والمآسى، فمن هذه النقطة يمكن الانطلاق من جديد والانعتلاق من عبودية الموت المجاني وصناعة الحزن والبكاء بمجانية ساذجة. أختبر الجميع كيف أن تكون ضحيةً في لحظة بسبب طيشٍ في طريقة التفكير، وكيف يمكن أن تكون جلادٌ وأن تعاني من ويلات الواقعة؟، كيف يمكن أن ضحية جهالة وعصبية وعنصرية وقبلية عمياء؟، وكيف يمكن أن تموت عبثاً بلا ذنب؟. وبالتالي، هل ستكون هذه الحرب بالفعل، لحظةً مختلفة تتمرد على المألوف، فتخلق سردية جديدة تحاجج بها الزمن، وتتباهى بها أمام الذاكرة التاريخيّة في محكمة التأمل والمراجعة؟. إنها سلطة السؤال ونفوذه؛ إذاً سننتظر وسنرى.

25 مارس، 2024
مدينة جوبا، جنوب السودان.

Translate »