قِصَّة قَصِيرَة “خُبْز دَامِي”

واجومانيوز

بقلم:باطومي ايول 

واجومانيوز 

 بَعْد شهْريْنِ مِن اِسْتمْرار الحرْب تمامًا ، خرج اَلعَم ، بَعْد أن وَشَّح نَفسَه بِملابس مُقَدسَة بِحكْم عَملِه بِالْكنيسة اَلتِي ظَلِلنَا نُؤدِّي فِيهَا فَرِيضَة الصَّلَاة كُلَّ يَوْم الأحد ، فقبْل خُروجه كان فِي غُرْفته الخاصَّة ونحْن فِي الخارج نَتَبادَل أَطرَاف اَلحدِيث عن وَاقِع الظُّروف اَلتِي نعيشه الآن .

 أَثنَاء ذَلِك كُنَّا نَسمَع إِلى هَمَسات صَوتِية بَعِيدَة ومتقطِّعة ، وَهذَا مَا دفعنَا إِلى النَّظر بِاسْتراق فُضُول لِمعْرِفة مَا يَجرِي بِالضَّبْط فِي الدَّاخل لِنعْرف مع من يَتَحدَّث عَمِّي ، إِذ كُنَّا نَخشَى بِأن يُصيبه اَلمَس ، بِسَبب هَذِه الحرْب اللَّعينة ومَا يُمْكِن أن يُسَببَه مِن ضَغْط نَفسِي ، بِرَغم أَننَا اِعْتدْنَا لِممارساته وَطقُوسه الصَّباحيِّ ، بَعْد مُضِي اللَّيْل ، هَذِه المرَّة مُنْذ الصَّبَاح ، بَعْد أن اِحْتسيْنَا الشَّاي بِنكْهة شَجرَة اللَّيْمون اَلتِي ظل تَتَوسَّط حَوشُنا طُواَل عَشُرون عَاماً ، إِذ لَم يَعُد بِمقْدور أيِّ أحد الذَّهَاب إِلى السُّوق لِيبْتَاع رفاهيات ، كماليَّات طُقوسِنَا الصَّباحيَّ فِي اِحتِساء الشَّاي .

بَعْد أن وجدْنَا فُرصَة خِلْسَا ، لَم يَكُن يَدرِي أَننَا نُشاهِده وَكَّل مَا يَقُوم بِه ، كان راكعًا بِخْشو ، وأياديه إِلى أَعلَى وَوجَّه إِلى سَقْف الحائط كأنَّمَا يَنظُر ويتحَدَّث إِلى شَخْص مَا ، عرفْنَا أَنَّه ” أيْ عَمنَا ” يُصلِّي ، ولطالمَا ظِلُّ مُواظِبًا ، لَكِن هَذِه المرَّة كان مُخْتلِفًا ، فَكُلنَا نودُّ إِيصَال صوْتنَا اَلقدِير ، كُنَّا نَتَمنَّى أن يَستَمِع إِلى دعواتنَا اَلذِي كُنَّا لا نَعلَم مَا يَطلُبه عَمنَا بِالضَّبْط ، لَكِننَا كُنَّا نَأمُل بَعْد الصَّلَاة بِقليل نَتَوقَّع أن تَهدَأ دَوِي البنادق قليلا ، هَذِه الحرْب اللَّعينة اَلتِي عَطَّل حَيَاتنَا ولم نُعِد نَفعَل شيْئًا .

 لَكنَّه جثَا على وَجهِه ، فأحْسسْنَا رُبمَا يَكشِف أَمرُنا ، فتراجعْنَا قليلا وَبهُدوء حَتَّى لَا نُسبِّب لَه أيًّا تَشتُّت يُوقفه مِن هذَا التَّواصل الرُّوحيِّ ، عُدنَا وَجَلسنَا على كراسيِّنَا تَحْت شجر اللَّيْمون مِن النَّاحية الشَّرْقيَّة وَعلَى طرف الآخر شَجرَة النِّيم اَلتِي كان مَسْكَنا لِبَعض الطُّيور التَّائه اَلتِي لَم تَعُد تَأتِي بِذَات الفوْج ، حَيْث اِعْتَاد عَمنَا اَلجُلوس ، وسط عبْثاتنَا فَجأَة سُمعَنا وقع إِقدَام نعْرفهَا جيِّدًا أَنَّه هُو مُرْتدِيًا مَلابِسه المقدَّسة الكنسيَّة ، وصليبًا كَبِيرَة مُتَدليَة على صَدرِه ويرْتَدي نَظَّارة طِبِّية كَبِيرَة كمَا اِعْتدْنَا نَرَاه فِي وَجْه ، وَفِي يَدِه كِتابه اَلمُقدس .

وَقْف أَمَامنَا ولاحظْنَا أَنَّه قد زاد طُولُه بِقليل ، وجدْنَا أَنفُسنا نَقِف أمامه ، فَقَال لَنَا أراكم مُحْتاجين لِلرَّغِيف فقد نِمْتم بِلَا أَكْل أَمْس ، أَنتُم بِحاجة لِشَيء تَأكُلوه الآن ، دُونمًا نَشعُر أوْمأْنَا بِرؤوسنَا تَأكِيد لِصحَّة مَا كلامه ، فَقَال لَنَا حسنًا ، تروْنَني أَرتَدي هَذِه الملابس المقدَّسة ، لِستِّ ذاهبًا إِلى الهيْكل لِإدارة أيِّ خِدْمَة بل اِرْتديْته بحْثًا عن مَخبِز لِأبْتَاع لَكُم بَعْض الأرْغفة ، رُبمَا سَوْف أَجِد اِحْترامًا وتقْديرًا مِن تِلْكم اَلجُنود المسْعورة الَّذين مَا بُرهَة وَإلَّا قُتلوا مِن يَجدُونه فِي اَلطرِيق .

كُنَّا مُتأكِّدين أَنَّه بِحكْم مَوقعِه كَرجُل دِين لَن يُصيبه أيُّ مَكرُوه خَاصَّة أَنَّه خرج مِن اَلغُرفة لِتَوه بَعْد حديث رُوحيٍّ طويل مع الخالق ، عَلِمنَا بَعْد ذَلِك أَنَّه رَكِب سيَّارَته وَخرَج بِهَا ، بِرَغم المعْلومات المؤكَّدة أنَّ تِلْكم اَلجُنود المسْعورة ظَلَّت طَوَال الشَّهْريْنِ الماضييْنِ يرْهبون أيُّ شَخْص يَقُود سيَّارَته لِيأْخذوهَا وَهذَا مع حدث بِالضَّبْط مع جارنَا المتواضع صَاحِب مُغلَق ” الرَّحْمة ” لِموادِّ البنَاء والْأدوات الكهْربائيَّة وأيْضًا لِصاحب صَيدلِية ” لِوَجه اَللَّه ” لِلْمسْتلْزمات الطِّبِّيَّة ، كُنَّا قلقين بِمَا سَوْف يَحدُث لِلْعمِّ ، وَلكِن كُنَّا مُطْمئنِّين بِأنَّ حَدِيثَه الرُّوحيَّ وملابسه المقدَّسة عَلامَة رَجَاء وإجابة كَافِية أَنَّه سَوْف يَعُود وَهُو يَقُود سيَّارَته سالمًا حاملا مع خُبْز بَعْد أن مكثْنَا بِضْعَة أَيَّام نَحلُم بِه ، لَم نَجِد فُرصَة حَتَّى نرى الشَّارع لِأنَّ تِلْكم اَلجُنود المسْعورة يتقاطعون هُنَا وهناك فِي كُلِّ الشَّوارع ، يبْحثون عن أَشيَاء لَا يُدَرونَه أَيْن مَخبئِها .

اِنْتظرْنَا لِساعة ولم يَرجِع اَلعَم ، فَقُلنَا لِأنْفسنَا إِنَّه سَيأتِي وَمعَه خُبْز وَرُبمَا معه أَشيَاء أُخرَى نحْبهَا ، غاب أيْضًا السَّاعة الثَّانية ، نَتَوقَّع أن نَسمَع صَوْت مُنَبها السَّيَّارة ( اَلبُوري ) كمَا اِعْتدْنَا ، آذانًا بِفَتح اَلْباب وَلكِن يُخَيبنَا الظُّروف مَرَّة أُخرَى لِساعة الثَّالثة بَعْد خُروجه والْوَقْتُ يَمضِي والْجوع يَقتُلنا بل التَّفْكير فِي غِيَاب اَلعَم يُزْعجنَا لِدرجة أَننَا لَم نُعِد نُفكِّر فِي اَلخُبز ، فَقُلنَا لِأنْفسنَا لِمَا لَا نَذهَب إِلى الدَّاخل ونفْعل كمَا فعل اَلعَم راكعًا ، وأياديه إِلى أَعلَى ، ونهمهم كمَا كان يَفعَل وَهُو يَنظُر إِلى سَقْف الحائط ونتحَدَّث لِمن كان يَتَحدَّث إِلَيه بِثقة ، لِيقول لَنَا أَيْن هُو نسْأله عن سبب تَأخرِه بِخبْزِنَا ، أجلا كَانَت فِكْرَة جَيدَة وتمَّ قبولهَا ، فعلْناهَا كمَا كُنَّا نتخيَّلهَا وتحدَّثْنَا رُوحيًّا إِلى شَخْص لَا نَدرِي أَيْن هُو الآن ولَا نُظَراءَه قطُّ وَلَكننَا كُنَّا نَعلَم فِي لَحظَة مَا أَنَّه يَستَمِع إِليْنَا ، وجدْنَا أَنفُسنا فِي حديث عميق وبصوْت عظيم وبقلْب هُمَيم نَرفَع حديث الرُّوح ، فَجأَة سَمِعنَا صَوْت رَميَة حجر اِعْتقدْنَا أنَّ طَلقَة طَائِشة يَدُق بِحائط اَلغُرفة ، تَوَقفنَا عن حديث الرُّوح ونحْن مُتسقَان بِالْعِرْق ، ثُمَّ خرجْنَا مِن اَلغُرفة وَرائِينا رَجلَي شَخْص مِن أَسفَل اَلْباب وَخطُوط ظِلِّه يَتَحرَّك هُنَا هُنَاك ، سألْنَا قَبْل أن نَفتَح باب اَلمنْزِل لِيعْرفنَا مِن هُو ، وَلكِن بِصَوت قَوِي وحزين قال لَنَا ، أنَا اَلعَم ، وَعلَى طُول فتحْنَا اَلْباب نَنظُر إِلى أَيادِيه عسى يُكوِّن حاملا كِيس اَلخُبز ، وَلَكنَّه لِلْأسف كان فارغًا اليدَيْنِ حَتَّى كِتابة اَلمُقدس لَم يَعُد معه ، وملابسه مُتسقَة بِالتُّراب وصليبه اَلتِي كَانَت مُعَلقَة على رَقبَة ، أَصبَح حِباله مُقَطعَة تمامًا مُخَبئَة بِيَده ، حَافِي القدميْنِ ، حزين ، لَم يَعُد بِسيَّارته الجميلة اَلتِي ظلَّ معه طِوَال العشْر سَنَوات الماضية ، دخل اَلعَم وَهُو لََا يَتَحدَّث إِلى أيِّ شَخْص لَكنَّه مَرَّة أُخرَى اِخْتَار غُرفَتَه الخاصَّة وَذهَب لِذَات الهمْهمة ، وَهُو يَهمِس بِصَوت حزين ، فِي حديث رُوح جميل ، لَم نَسمَع سِوى كَلمَة ” شُكْرًا ” وَهُو يُرَدده كثيرًا ، كُنَّا فِي الخارج نَنتَظِر حَتَّى يُنْهِي حديثه اَلْخاص ، وبعْد بِضْع دَقائِق خرج مُبْتسِمًا بشوشًا مُسْتقِرًّا نفْسيًّا ، فَوَجدنَا أَنفُسنا نَتَحدَّث إِلَيه بِابْتسامة جَمِيلَة ، تناسيْنَا مَسْأَلة اَلخُبز ، والْجوع اَلذِي أَصبَح يَخدِش دَاخلِنا الآن ، سَألَه أَخِي اَلصغِير ، أَيْن اَلخُبز يَا عَمِّي ؟ فَرْد لَنَا اَلعَم بِرَغم عَجزِه عن تَقدِيم ردٍّ مُنَاسِب لَنَا لِأنَّ سبب خُروجه كان مِن أَجْل أن يَجِد رغيف أو شيٍّ نَأكُله ، لَكِن بِحضور ذِهْنِي غريبًا وَثقَة جَمِيلَة ردَّ اَلعَم قائلا ” لَيْس بِالْخبْز وَحدِه يَحيَا الإنْسان يَا اِبْنِي .

باطومي ايول/ رئيس تحرير صحيفة “واجومانيوز “

11 / أُغسْطس / 2023 م / ربك

bathum44@yahoo.com

 

 

Translate »