وكتب سيف الدولة….صفارة الري في مـــلـــــكال!!

واجومانيوز

بقلم : سيف الدولة صالح جفال

واجومانيوز 

        تداعت ذكريات هذه الخاطرة في بداية شهررمضان إلا أنني شغلت بالإستعداد للشهر الكريم عن كتابة المقال حتى قرب وقت رحيل الشهر الحبيب فعزمت على كتابته فيما تبقى منه . غالبا ما تكون الذكريات المرتبطة بالشهر الفضيل رمضان ذات وقع مختلف في النفس سيما المرتبط منها بأزمنة وأمكنة طاب فيها المقام والانسان فتكون ذكرى مشبعة بالارتواء العاطفي والروحي, وهذا هوالحال مع ذكريات رمضان في مدينة ملكال في أيام زواهر نضرات لم تفسدها سياسة ولا حروب ولامسغبة فعشنا في ملكال إحدى أروع مدن السودان قبل أن يقال لنا أنها ليست من مدن السودان !!

      كانت مدبنة ملكال تحتفي بشغف كبير ودستور فريد وتسامح كبير بكل المناسبات الدينية , فتتوهج المدينة بنور الفداء في عيد الاضحية ويسهر الكل في ليالي المولد في ساحة مسجدها الكبير ويفرح الكل بكافة اعراقهم وأديانهم بحلول عيدالفطر المبارك الذي يعقب رمضان فنتسابق مسلمون ومسيحيون شماليون وجنوبيون إلى السوق الكبير حيث محال الأقمشة الراقية لشراء آخر الموضات من الملابس ومن ثم الحجز عند اشهر الترزية في المدينة وقتها( تليان- ابوزوزو- يحي سليمان- حاج قاسم) لضمان خياطة الملابس في وقت مبكر إحتفاءابالعيد السعيد.

      وقبل أن يهل علينا رمضان بشهر أو أكثر في مدينة ملكال (زمان)تسبقه إشارات مميزة تتصدرها رائحة (الحلو مر) الذكية والقوية تفوح من أزقة أحياء المدينة في الملكية والجلابة حيث تجيد أمهاتنا وخالاتنا إعداد وعواسة هذا المشروب الطيب , وحتى في الاحياء الجنوبية من المدينة في( أصوصا ودنقر شوفو). ومن بين المشاريب الطيبة التي تفننت نساء ملكال في صنعها وإعدادها مشروب الآبري الابيض الذي يصنع من عجينة سائلة ورقيقة تعاس في شكل كسرة رهيفة للغايةوهشة تجف فورا طعمها حامض وبنكهة التوابل وربما إضيف لها لون للزينة , تنقع في الماء البارد مضافا إليها السكر وهومشروب لذيذ سريع الإرواء من العطش. وقد إختفى هذا المشروب الطيب من مائدة رمضان حتى في أم درمان التي تجيد نساؤها صنعه أيضا , أما ملكال فقد إختفت هي نفسها بفعل حروب الإخوة الأعداء وبقيت منها الذكريات الجمبلة في شهر رمضان.

 

       كان رمضان إذا أقبل في ملكال يعلن ثبوته مساء يوم تثبت الرؤية بإطلاق صافرة قوية مدوية جميلة الصوت تطلق من عند محطة الكهربا القائمة الخاصة بمنِشأة الري المصري الفخمة وهي مؤسسة كبيرة تتبع لوزارة الري المصرية إتخذت من ملكال مقرا رئيسيا لها في السودان وتكاد تكون حرز دبلوماسي خاص بالشقيقة مصربنعم لاخصوصيةوقدر كبير من الاإستقلالية الإدارية ,تقديرا لأواصر الأخوة وتقاسم خيرات بلدنا ممثلة في مياه النيل مع مصر. تقع هذه المنشأة على شاطي النيل على مساحة تزيد على الاثنين من الكيلومترات المربعة معنية بقياس مياه النيل تضم المكاتب والورش والميناء النهري الخاص بها ومساكن الموظفين والمهندسين المصريين والسودانيين الملحق بها حدائق الفواكه والخضروات مع خدمات الماء والكهرباء والثلج حيث يلتقي الجميع في ود وسلام ورخاء سواء ان كان ذلك في مواقع العمل او السكن. وقد أرتبطت مدينة ملكال يصوت هذه الصفارة والتي يتردد صداها في أرجا ءالمدينة من أقصاها إلى أقصاها معلنة عن حلول الشهر الكريم رمضان وتستمر طيلة الشهر في الإنطلاق ساعات الإفطار والسحور والإمساك, وعندما بثبت العيد تطلق الصفارة ليلا بعد سماع الخبر من إذاعة أم درمان فتعم الفرحة ليل المدينة ويهرع الناس إلى السوق الكبير والذي غالبا ما يعمل حتى الصباح حيث تنطلق مهرجانات الفرح (القومي) بعيد الفطر المبارك. فتقام صلاة العيد في باحة مسجد ملكال الكبير ( بناه الملك فاروق وهو من الحجر وعلى طراز العمارة الفاطمية الإسلامية يعتبر واحد من أفخم مساجد السودان) ومن يشهد صلاة العيد في ملكال يكاد يجزم بأنه في إحدى حواضر شمال السودان من كثرة المصلين من شماليين وجنوبيين, ثم يتفرق الناس إلى الاحياء لتبادل الزيارات والتهاني بالعيد وسط زخم ضربات (النوبة )لجماعات الطرق الصوفية التي تطوف المدينة ببيارقها الخضراء , ويأتيك ولا تعجب ,غناء حسناوات الدينكا وهن في كامل زينتهن يطفن احياء المدينة يؤدين رقصاتهن في معايدة خاصة للمسلمين في عيدهم وإن إختلفت المعتقدات.!! ثم يتجه شباب المدينة من كل أرجائها إلى الميناء النهري حيث تنطلق الرحلات النيلية بفرقها الموسيقية تقل الاسر والأفرادعلى متن اجمل البواخرفي مشهد حضاري بديع سبقت به ملكال بقية المدن بلا مبالغة ! نعود إلى صفارة الري كي لايسرقنا حديث العيد عنها.

       نشأت أجيال عديدة في ملكال في كنف صافرة رمضان وربما لايعرفون سرها وتأريخها, وهي في الاصل من آثار الحرب العالمية الثانية وكانت ملكال وقتها حامية بريطانيةعلى عداء مع التليان( الإيطاليون) الموجودون في إثيوبيا شرق مدينة ملكال,وكانت الطائرات الإيطالية الحربية تشن الغارات المفاجئة على المدينة وتمطرها بالقنابل التي مازالت اثارها باقية إلى وقت قريب شرق موقع أستاد ملكال الآن إن بقي له اثر! فتطلق الصفارة للإنذار ليحتمي المواطنون ويستعد المقاتلون, وكانت هذه هي مهمة صفارة الري في عهدها الأول وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 تحولت مهمة الصفارة إلى الإعلان عن شهر رمضان ومواقيته.

     اللهم في خواتيم هذا الشهر الكريم رمضان,نسألك ربي بحولك وطولك وقوتك وجبروتك أن تعيد الأمن والسلام إلى ملكال في عهدها الأول حيث كان الجمبع إخوة ورمضان يجمعنا.!!؟

 

Translate »