ميدل إيست آي: كتب لجيل نوبي جديد يكتشف لغته

واجومانيوز

واجوما نيوز  – الجزيرة

بعد مرور أكثر من نصف قرن على تهجير النوبيين المصريين من قراهم في جنوبي مصر عقب بناء السد العالي وخزان أسوان في ستينيات القرن الماضي، يخوض النوبيون نضالا جديدا للحفاظ على لغتهم الأم بين الأجيال الجديدة.

ويعيش كثير من النوبيين مشكلة “ازدواجية اللغة”، إذ بحكم انخراطهم في المجتمع يتحدثون اللغة العامية المصرية، ويتلقون تعليمهم في المدارس باللغة العربية، في حين أنهم يتحدثون في ما بينهم بلغتهم الأم.

لكن هذه الازدواجية لم تكن المشكلة الوحيدة في الحفاظ على اللغة النوبية، إذ إن النوبية كان ينظر إليها حتى وقت قريب بوصفها لغة شفهية يتحدث بها أهل النوبة، لكنهم يكتبونها بالأحرف اللاتينية أو الإنجليزية، وأحيانا العربية، لكن الاكتشافات اللغوية الحديثة تشير إلى أبجديات مكتوبة قديمة.

البحث عن الذات

تعمل مجموعة من المؤلفين والفنانين النوبيين على إصدار كتب مستوحاة من رحلتهم الخاصة في البحث عن ذواتهم، لمساعدة الأطفال على تعلم لغتهم القديمة كتابة ونطقا.

ويقول موقع “ميدل إيست آي” (MIDDLE EAST EYE) البريطاني إن رامي داود -الذي يقطن في مدينة الإسكندرية المصرية، ويتذكر في أيام طفولته كيف كان الكبار من حوله يتحدثون لغتهم النوبية عندما بدأ قراءة ودراسة الثقافة النوبية- أدرك أن قلّة قليلة من الناس يتحدثون هذه اللغة التي باتت مهددة بالانقراض.

وفي محاولة للحفاظ على لغة أجداده -التي تضمنت كتابة أغاني “الهيب هوب” بكلمات نوبية- قرر تأليف كتاب للأطفال بلغة “نوبين”، وهي أكثر اللغات النوبية انتشارا، لا سيما في صعيد مصر وشمال السودان، ليكتشف أنه لم يكن وحيدا في سعيه.

من جهته، كان حاتم عجيل (رسام سوداني ومصمم خطوط نوبية) بصدد التفكير في مشروع مشابه مع جويل ميتشل (مؤسس مطبعة طرس في لندن)، وبعد تواصلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي أدركوا أن أهدافهم متوافقة، وقرروا التعاون مع بعضهم البعض.

واتفقت المجموعة على نشر 4 كتب للأطفال مكتوبة بالأبجدية النوبية، التي تعود إلى قرون، والموجودة في المخطوطات النوبية القديمة. وهو مشروع يهدف إلى مساعدة النوبيين أمثالهم -وكذلك أي شخص آخر مهتم بهذه اللغات- على تعلم القراءة والكتابة والعد باللغة النوبية.

لغة مهددة بالانقراض

وأفاد تقرير الموقع البريطاني بأن “فنسنت دبليو جيه فان غيرفن أوي” (عالم اللغة المتخصص في اللغة النوبية القديمة) قال إن لغة “نوبين” تنتمي إلى عائلة اللغات النوبية المستخدمة في السودان وجنوبي مصر، والتي تُشبه اللغة النوبية القديمة، وهي لغة أدبية كانت معتمدة في المملكتين النوبيتين “نوباتيا” و”المقرة” منذ حوالي القرن الثامن حتى القرن 15.

وأوضح “فان غيرفن أوي” أن اللغة النوبية القديمة المكتوبة كانت معاصرة للغة “نوبين” القديمة، وهي اللهجة العامية المنطوقة إلى يومنا هذا، والمعروفة باسم “نوبين”، وهو مصطلح صاغه العلماء منتصف القرن 20. ومنذ القرن 12، بدأت اللغة العربية تنتشر في المناطق ذات الأغلبية الناطقة بلغة نوبين، في فترة تسارع فيها دخول الإسلام لبلاد النوبة، وتزامن ذلك مع انهيار الممالك النوبية المسيحية.

ويقول الكاتب إنه في العصر الحديث تم تقسيم بلاد النوبة بين مصر والسودان، وهما دولتان تتحدثان اللغة العربية إلى حد كبير، وقد أنكرتا تاريخيا التنوع الثقافي والتعدد اللغوي، ولديهما في الأغلب نظام تعليمي أحادي اللغة، وأدى ذلك -حسب فان غيرفن- إلى تهميش وتطهير ثقافي تدريجي للمجتمعات النوبية، حسب ما ظهر في تقرير نُشر عام 2020 عن لغة نوبين من قبل اللغويين مايا بارزيلاي ونوبانتود خليل.

وعرّضت عوامل أخرى -مثل هجرة اليد العاملة والتحضر، والعديد من موجات النزوح خلال القرن 20 التي كانت أهمها بسبب بناء السد العالي في أسوان- لغة نوبين لخطر أكبر.

وحسب تقرير بارزيلاي وخليل، فإن التقديرات تشير إلى أن ما يزيد قليلا على نصف مليون شخص يتحدثون اللغة النوبية اليوم، ويعيش معظمهم في السودان ومصر، والباقي في الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج.

ورغم أن الأبجدية الأصلية كانت تستخدم باستمرار لكتابة اللغة النوبية القديمة، حتى انهيار آخر مملكة نوبية في القرن 16، فلا يزال كثير من الناس يعتقدون أن اللغات النوبية غير مكتوبة إلى يومنا هذا. وفي الواقع، خلق فقدان نظام الكتابة الرئيسي للشعب النوبي، لما لا يقل عن 8 قرون، فجوة عميقة في التاريخ المكتوب لهذه اللغات.

ويقول فان غيرفن أوي إن محاولات كتابة لغة “نوبين” مرة أخرى كانت في القرن 19، لكن إحياء الأبجدية ومعرفة اللغة النوبية القديمة بدأ الانتشار بشكل أوسع بين المجتمعات النوبية أواخر القرن 20. وبدأت أبرز المبادرات لإعادة تطوير أساليب الكتابة النوبية في التسعينيات، بقيادة الأستاذ النوبي في جامعة القاهرة مختار خليل كبارة، وذلك بتبسيط وتعريف قواعد كتابة اللغة النوبية الحديثة.

كتابة صواردة هو الخط الأول في العالم المصمم خصيصًا للغة النوبية (مواقع التواصل)

“هكذا نكتب اللغة النوبية”

وبعد التعاون مع ميتشل والشاعر السوداني من أصل نوبي “ك. إلتناي”، يحاول داود وعجيل إحياء الأبجدية النوبية لكتابة المخطوطات النوبية والمحافظة على لغة نوبين، بمساعدة مطبعة طرس، ويهدف الفريق إلى مواصلة تسهيل الوصول إلى اللغة النوبية وأبجديتها.

من جانبه، طوّر عجيل خطّا أطلق عليه اسم “صواردة”، استنادًا إلى المخطوطات النوبية القديمة، بمساعدة “فان غيرفن أوي”، ويشير تقرير “ميدل إيست آي” إلى إنه الخط الأول في العالم المصمم خصيصًا للغة النوبية، وسيكون الخط الوحيد المستخدم في جميع الكتب الأربعة التي يخطط الفريق لإنتاجها.

وصُمم الكتاب الأول “هكذا نكتب اللغة النوبية” للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و6 سنوات، وهو كتاب أبجدية لتعليم كيفية قراءة وكتابة كل حرف نوبي. ويقدم الكتاب النص النوبي والمفردات الأساسية للقراء المبتدئين، من خلال ربط الحرف في كل صفحة بكلمات محددة في لغة “نوبين” تحتوي على نفس الحرف.

وكجزء من جهود الفريق لتشجيع قراءة وكتابة اللغة النوبية، قاموا بتدريس كيفية كتابة حرف نوبي واحد يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال مقاطع متحركة مصحوبة بأمثلة تاريخية. وفي 21 يونيو/ حزيران الماضي، أطلقوا تحديًا في الكتابة لتكوين 3 جمل نوبية بسيطة مع انتهاء السلسلة.

وأصدروا أيضا -ضمن سلسلة- كتابا آخر بعنوان “أخوات الماء”، الذي ألفه “إلتناي” باللغة الإنجليزية، وهو عبارة عن قصص قصيرة مصورة تدمج مفردات لغة نوبين، وتهدف إلى المساعدة في بناء المفردات.

وتتطرق القصة إلى رفع السد العالي في أسوان والحنين الجماعي للنوبيين إلى مكانهم المفقود من خلال قصة الطفلة النوبية الصغيرة “زنوبة”، التي وجدت 3 صدفات على الشاطئ بالقرب من البحر الأحمر، ووضعتها تحت وسادتها، لتتحول في الليل بطريقة سحرية إلى 3 حوريات تمثل الماضي والحاضر والمستقبل، وتأخذ الفتاة في مغامرات لا تُنسى عبر دلتا النيل، للتعرف على تراثها ومكانها في الكون بشكل أفضل.

وأشار ميتشل إلى أن هذه ستكون المرة الأولى التي تنشر فيها مطبعة “طرس” كتبا باللغة النوبية. وبدأ العمل على هذه السلسلة رسميًا منذ عامين، لكنها حتى الآن ركزت على مشاريع صغيرة من الأدب التجريبي والشعر باللغتين العربية والسريانية، والترجمات إلى الإنجليزية.

تدوين قواعد اللغة النوبية

ومن خلال نشر الكتب، يهدف الفريق بدرجة أولى إلى توسيع نطاق الأدب المتعلق ببلاد النوبة وأدب اللغة النوبية للأطفال، ويرى أنها خطوة أساسية للمساعدة في الحفاظ على الموروث اللغوي. في الوقت نفسه، يستثمر الفريق قدرا كبيرا من جهوده في التوفيق بين قواعد اللغة الخاصة بلغة نوبين، وهو إجراء يعتبرونه أساسيًا لعملية التعلم.

من جانبه، أوضح ميتشل أن الأشخاص الذين يكتبون باللغة النوبية اليوم لا يستخدمون قواعد اللغة التقليدية. لقد قاموا بتغيير بعض الجوانب بمرور الوقت بطريقة لا تعد متسقة بالضرورة. ولمعالجة الأمر، طورت المجموعة الخط الأول الذي يمثل ثقافة المخطوطات النوبية بشكل دقيق، ويحاول تدوين قواعد اللغة النوبية.

ومع تأمين الأموال اللازمة لنشر الكتب، بدأ الفريق أيضًا السعي إلى إيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص، لا سيما في السودان ومصر؛ ونظرًا لضرورة الحفاظ على اللغة، سيتم توفير طبعات رقمية مجانية لجميع الكتب.

بناءً على نجاحهم الأولي، ومع التركيز على المستقبل، يفكر الفريق أيضا في إنشاء كتب صوتية لهذه الإصدارات، بالإضافة إلى ترجمات لمجموعة اللغة النوبية الثانية “أنداندي وماتوكي”، آملين أن تصبح جزءًا من مبادرة طويلة الأجل لمواصلة نشر كتب أخرى تحافظ على تراث النوبيين.

 

المصدر : الجزيرة + ميدل إيست آي
Translate »