البيتُ الأبيضْ
واجوما نيوز
بقلم : بوي جون
إنها قصة مصور صحفي يُدعى “ريتي”،بل إنها قصة رجل يُدعى “ريتي” و شقيقته “بيانكا” و “امهما” والشمالي المرعب “عباس”،بل إنها قصتهم جميعاً و قصة شعب كامل يرزح تحت ويلات الحرب و أهوالها.
يفتح “فكتور لوقالا” جراحات “الحرب الاهلية السودانية الثانية”،و التي تُعد الاسوأ على الاطلاق بين جميع الحروب السودانية،لا بسبب نتائجها الوخيمة على وحدة البلد التي اصبحت فصلاً في كتاب الحنين و الذكريات لكل مَنْ عاشها،وإنما بسبب المرارات التي غرستها في نفوس اجيالٍ من الناس الذين عاشوا بعض تفاصيلها الاليمة،مثل قصة “البيت الابيض” و مجازرها المروعة التي شهدتها مدينة “جوبا” اثر هجوم “متمردي الجيش الشعبي” عليها في7 يوليو 1992،والتي صارت تُعرف في المخيلة الشعبية المحلية باحداث7\7.
يتخذ “لوقالا” من تلك الأحداث مدخلاً ليطل عبره على كامل المشهد المزري،لبلدٍ منكوب و شخوصٍ تتربص بها الموت في جميع خطواتها..فمَنْ لم يمت قتلاً مات هماً،او كمداً …هنا،أي في الكتاب،نجد جوبا مدينة اموات و “ريتي” الشخصية الرئيسة في النص يحاول الحفاظ على جذوة الحياة متقدة في روحه وسط ذلك الجو المشحون بالموت.
الكتاب و الذي يقع في 75صفحة من القطع المتوسط يقدم عبر”الراوي العليم” سرداً مسهباً،يتخذ من سيرورة الحياة اليومية لـ”ريتي” الذي يعمل مصوراً صحافياً في احدى الصحف الاسبوعية،ويسكن حي “اطلع برا” في منزل والده المتوفي مع امه العجوز و شقيقته “بيانكا”، التي تدير “أندايا” في سوق “رجال مافي”،و هي صديقة لـ”سارة” حبيبته،ويظهر مثل الشبح في خلفية المشهد على الدوام رجل الامن سيء الصيت و المخيف الجانب “عباس”، يتخذ من كل ذلك وسيلةً ليعرض عبرها المعاناة و الاهوال الصعبة التي كتبتها يدُ الحرب لسكان المدينة.
تبدو شخصية “ريتي” مهزوزة نفسياً و مسلوبة الارادة مثل غيره من اقرانه الذين بقوا في الداخل،فهو يشعر بالاختناق من الظلم الذي يقع على السكان من قبل الحكومة،لكنه لا يستطيع الاتيان بردة فعل خشيةً من المخبرين الذين زرعتهم السلطة في كل ركن،لدرجة أن لا أحد يستطيع الوثوق حتى في أقرب الأقربين إليه،فنجد الشك يساوره ازاء حبيبته “سارة” تارةً.. و شقيقته “بيانكا” تارة اُخرى،ولا مفر امامه رغم كل ذلك سوى ابتلاع مخاوفه و محاولة المُضي قدماً بحياته إلى الأمام، كأنما لا شيء يحدث على الاطلاق ولكن هيهات.
فها هو يجد نفسه وسط دوامة الاحداث و المشكلات تحيط به إحاطة السوار بالمعصم:فالجنود يأتون و يقتادون زوج جارتهم “ليلا” ـ ليلا اسم علم لمؤنث ـ دون رجعة،فيهمس الناس لبعضهم البعض ان المسكين قد سيق الى “البيت الابيض” الرهيب السمعة و الذي لم يخرج منه احداً قط،وتقتحم امه غرفته بغتةً لتحذره من حبيبته “سارة”؛حيث ترى فيها “افعىً” تعمل “مخبرة” لدى الاعداء فيقرر هو تركها لحال سبيلها،لكن قلبه يعاند و يضرب عرض الحائط بالقرار العقلاني ليتورط معها أكثر فأكثر،وفيما هو يجاهد كيما يُخلص نفسه من ذلك الفخ المميت،تسقط عليه مثل الصاعقة معلومة أن شقيقته “بيانكا” تمثل عاراً عليهم ..ليتها كانت “مخبرة” لو كانت كذلك لكان الامر أهون وقعاً،لكنها على علاقة مع “عباس” القاتل الذي لاشك يحمل وزر دماءٍ كثيرة ربما منها دماء زوج “ليلا” نفسه…فما اقسى العار!
دوامة المشكلات لا تنتهي فيسقط “ريتي” في قبضة الامن والسبب أنه كان يحتفظ بصورة لزعيم المتمردين في درج مكتبه،فيجد نفسه وجهاً لوجه مع الكوابيس التي كانت تطارده على الدوام،لكن بصورة ابشع حيث يتم إغتصابه فيتمنى الموت من هول شعوره بالعار،لكن العار يلتصق به أكثر عندما يأتي “عباس” لينقذه من الموت المحتوم،وقد صار بحكم الامر الواقع زوجاً لشقيقته “بيانكا” التي كانت في تلك اللحظة في مستشفى جوبا تضع طفلاً من “عباس”،إنه العار ملتصقاً بالاسرة إلى الابد او هكذا قالت له شقيقته و هي تحمل الرضيع في وقتٍ لاحق،وتضيف لكنه الثمن الذي كان عليها سداده حتى تحتفظ به حياً…إذن هو العار لا شقيقته و لا طفلها.
لا يجد مفراً أمامه الإ الهرب لكن الى أين؟…الى الخرطوم نفسها حيث “معقل العدو” أو هكذا كان يظن..لكن هنالك أيضاً العار لا ينفك عنه،حيث تأتيه جارتهم “ليلا” بخبر يدمر ما بقي في روحه من نفسٍ للعيش “لقد هربت سارة الى الخرطوم مع احد الجنود الشماليين”…لا مكان له..لا كرامة له..عليه التصالح مع حقيقة أنه مَنْ جلب العار لاسرته،هو نفسه لا شخصاً اخر غيره،لا شقيقته “بيانكا” لا حبيبته “سارة” لا “عباس”.
قوة النص تكمن في أن الكاتب ظل طوال قصته الطويلة يركز على المواقف الانسانية لشخصياته،فتجده يوظف حتى الاسماء مثل “اطلع برا” و “رجال مافي” ليظهر التنكيل و القهر الذي ظل الانسان هنالك يرزح تحته،بل و يجعل من ذلك سانحة ليسرد جزءاً من تاريخ المكان،ويبين كيف أن اسماء الامكنة نفسها تحولت الى نوع من “ذاكرة للمقاومة و الرفض”،لكن نجد أن خيار “الراوي العليم ” الذي انحاز له الكاتب كخيار سردي اضعف من قوة النص نوعاً ما،سيما عندما يتحول و هو العالم بكل التفاصيل الى تقديم معلومات جغرافية عن المكان او يترافع عن الظلم الذي تعرض له الجنوبيين،حيث يتحول النص الى ما يشبه المرافعة السياسية او الكتاب الاكاديمي قبل أن يتدارك ذلك،و يعود به الى العاطفة و الجمال فيركز على جراحات الشخوص و احلامها الخ..
بالنسبة لي يكمن أهمية الكتاب بالاضافة الى قيمته الادبية،في انه المعالجة الادبية أو قُل السردية الاولى، لواحدة من مجازر الحرب التي ما تزال اثارها و عذاباتها تبتلع اسراً باكملها..ولا تجد تلك الاسر بعد ربع قرنٍ من الاحداث و جري مياهٍ كثيرة تحت الجسر، الاجابات الشافية عن اسئلتها بخصوص مصائر ابناءها وذويها…”البيت الابيض” كتاب يستحق القراءة،انه احتفاء بتاريخ قريب لكنه منسي فمَنْ يستجيب!.
“فكتور لوقالا” هو كاتب و شاعر من جنوب السودان، تلقى تعليمه في السودان و نال درجة الماجستير في الصحافة من جامعة “داي استر” بتنزانيا، صدرت له مجموعة شعرية بعنوان “قرع طبول الحرب” و سلسلة كتابات عن الفساد في البلاد تحت عنوان “تقيؤ الطعام المسروق”،وقد ظل يساهم بكتابات راتبة في الصحف والمجلات المحلية و الاقليمية.