وكتب باطومي ايول …حول الأزمة الدبلوماسية بين جنوب السودان والسودان

واجومانيوز

بقلم: باطومي ايول  

لفتت انتباهي مقالتان قيّمتان لكاتبين لهما كل التقدير. الأولى للكاتب صموئيل بيتر بعنوان “أزمة الدبلوماسية بين السودان وجنوب السودان: هل خطاب خارج السياق أم محاولة لتدويل القضية؟”، والثانية للكاتب عمار نجم الدين بعنوان “صموئيل بيتر بين سيكولوجية التواطؤ وصوت المقاومة لوزير الخارجية رمضان”. كلا المقالتين تناولتا قضايا مهمة تمس الشأن العام، وتؤثر بشكل كبير على تشكيل الرأي العام في البلدين، أعني هنا جنوب السودان وجارتها السودان،كونهما تناولا تداعيات الازمة الدبلوماسية الماثلة بين الدولتين الان. 

عليه يمكنني القول إن الظروف السياسية الراهنة التي تمر بها الدولتان تُعد الأكثر حساسية في تاريخ العلاقات الثنائية بينهما، بما تحمله من تعقيدات قد تعكر صفو العلاقة الخاصة التي تجمعهما. رغم ذلك، تُبذل محاولات غير مرئية من الجانبين لتحقيق الاستقرار، خاصة بعد الأزمات السياسية التي تشهدها السودان.  

والمقصود بـ”التعقيدات” هنا، المشكلات السياسية والأمنية التي قد تعرقل اي مساعي لتحقيق الاستقرار المنشود، وتؤدي إلى تداعيات سلبية تعيد أذهان الشعبين إلى مراحل تاريخية يسعى كل طرف لتجاوزها. وهذا بالطبع يسلط الضوء على حاجة الطرفين إلى تحقيق فكرة الاستقرار بدلًا من التركيز على لغة المصالح فقط.  

لا شك أن أي متابع للأوضاع السودانية منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م يدرك أن التطورات الأمنية والسياسية التي بلغت ذروتها في هذه الفترة قد أسفرت عن تداعيات عابرة للحدود، شملت دول الجوار بأشكال مختلفة: أمنية، سياسية، اقتصادية، واجتماعية.  

فمنذ اندلاع النزاع المسلح، أدركت دول الجوار خطورة امتداد آثاره إليها، فسارعت إلى لعب أدوار بارزة في محاولة إيجاد حلول لهذه الكارثة. ومع ذلك، لم تُسفر المحاولات الدبلوماسية عن نتائج إيجابية ملموسة. وهذا يعكس حجم التحدي الذي تواجهه هذه الدول، إضافة إلى الاتهامات المباشرة من الحكومة السودانية التي طالت بعض الدول بالتورط في النزاع الداخلي بدعم الطرف النقيض لها،وبسبب ذلك  كان من المتوقع أن تؤدي هذه الحرب إلى تدهور العلاقات بين السودان وجيرانه، وأن تلقي بظلالها السلبية على التبادلات الثنائية بين السودان ونظيراتها في مستويات مختلفة .  

لا نريد أن نخوض كثيرًا في الأدوار، سواء كانت إيجابية أو سلبية، التي لعبتها الدول المجاورة للسودان أو الدول البعيدة النشطة في قضايا الإقليم أثناء الأزمة التي استمرت لأكثر من عامين وما واجهتها من حرب ضروس . فقد تباينت هذه الأدوار تبعًا لرؤى حكومات تلك الدول. فلقد اختارت بعض الدول الانخراط العملي دون الجهر عن ذلك علانية، رغم أن الشواهد الميدانية كانت كافية لتوضيح من هم المنخرطون في الأزمة بشكل مباشر. في المقابل، اكتفت دول أخرى بمحاولات  وجهود دبلوماسية مقدرة لوقف الحرب لم تكلل باي نجاحات تذكر بحكم الموقف الحكومي الرافض لاي مساعي للتفاوض والاعتماد على الحسم الميداني، بينما فضلت دول ثالثة أن ترى السودان غارقًا في هذه الحالة، لأسباب تتعلق باختبارات أيديولوجية مرتبطة بتاريخ مجريات الأحداث في السودان.  

ليس خافيًا موقف العديد من الدول من الأيديولوجية التي هيمنت على الواقع السوداني، خاصة أيديولوجية الإسلام السياسي التي كانت حاضرة في نظام الحكم السابق ودورها الفاعل في المشهد السياسي. بالطبع، هذا موضوع آخر إذا ما أخذنا في الاعتبار تداعيات سقوط نظام البشير.  

هذه النقاط تقودني إلى جوهر موضوع مقالي، وهو تحليل العلاقات الثنائية بين جنوب السودان والسودان في ظل الظروف الراهنة، وما ترتب على حرب السودان من تصعيد دبلوماسي نتيجة الأحداث الأخيرة. ومن أبرز هذه الأحداث، ما وقع بعد استعادة القوات المسلحة السودانية السيطرة على مدينة ود مدني، إحدى أهم مدن ولاية الجزيرة. تحديدًا، ما تعرض له المواطنون الجنوب سودانيون في “كنابي كمبو طيبة”، حيث شهدوا تجاوزات عنيفة بلغت ذروتها في صور مروعة تضمنت الذبح، وهي صور هزت وجدان أي إنسان وشاهدها العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.  

ترتب على هذه الأحداث استياء شعبي واسع في جنوب السودان، وصل إلى مرحلة إثارة الشغب واستهداف المواطنين السودانيين في جنوب السودان. الأمر تطلب تدخلًا عاجلًا من حكومة جنوب السودان، التي أصدرت توجيهات من رئيس الجمهورية للتهدئة، ونشرت قوات أمنية في الشوارع. هذه الخطوة لقيت إشادة من قبل وزارة الخارجية السودانية، لكنها في الوقت ذاته ألقت بظلالها السلبية على العلاقات بين البلدين.  

من الصحيح القول إن الناشطين في البلدين لعبوا أدوارًا في إطار رفع راية الوطنية، مما أسهم في تصاعد خطاب الكراهية عبر الوسائط الإعلامية بين شعبي البلدين، وصولًا إلى أزمة سياسية وأمنية بين الدولتين. دفعت هذه التطورات بجنوب السودان إلى استدعاء سفير السودان في جوبا يوم ١٥ يناير ٢٠٢٥م  للحصول على توضيحات حول ما حدث لمواطنيه في ولاية الجزيرة.  

من المهم التوضيح أن طلب استدعاء السفير لتقديم توضيحات رسمية لوزارة خارجية الدولة المضيفة يأتي في إطار اتفاقية فيينا الموقعة في ١٨ أبريل١٩٦١م، والتي تنظم أعمال البعثات الدبلوماسية بين الدول. هذه الإجراءات تُعد أعرافًا دولية معمولًا بها لتنظيم العلاقات الدولية، ومنها استدعاء مسؤول البعثة الدبلوماسية للاستفسار عن أزمة سياسية ما. ورغم أنها إجراءات عادية، فإنها تحمل دلالة على وجود توتر في العلاقة بين البلدين، وقد تتطور في حالة التصعيد الدبلوماسي وضعفت أدوات إدارة الأزمة إلى درجة قطع العلاقات الثنائية.  

في هذه الإطار لا بد من قراءة العلاقات الثنائية بين البلدين وفقًا لمنهج يعكس التحديات التي تواجهها، أو لنقل إنها  تتسم بمحددات مرتبطة بعناصر الصراع السياسي التاريخي وعوامل الذاكرة التاريخية في كلا البلدين. وهنا يظهر دور العناصر العاطفية المتأصلة، حيث ترتبط بمواقف نفسية مشحونة بأحداث تاريخية مترسخة، ولكل فرد قصته الخاصة. من الواضح أن أي تنشيط لهذه الذاكرة تحت اي ظروف قد يقود إلى كوارث لا تحمد عقباها، حسب تصوري، كما حدث مؤخراً .

إضافة إلى ذلك، هناك عناصر ثقافية لا بد من أخذها في الاعتبار عند تحليل العلاقات الثنائية، لا سيما أن المحرك الأساسي فيها هو عنصر(الشعب) داخل البلدين.وبالتالي  حالة الشحن أو التشبع الثقافي بالأيديولوجيات المترسخة تعد عوامل محفزة لظهور تصرفات متعددة قد تؤدي إلى توقيع سلوكيات متطرفه، مما يُفعّل مشاعر الغبن السياسي والاجتماعي. وبهذا، تُعقّد إدارة النزاع القائم بشكل عام، وهنا تكمن الحساسية البالغة في طبيعة هذه العلاقة.  

إذا ما عدنا إلى موضوع المقال، وتحليل أدوات إدارة الأزمة الدبلوماسية بين البلدين الجارين وما ترتب عليها من تصعيد، فإن قراءة هذا المشهد تتطلب تناولًا متكاملًا لوسائل إدارة الأزمات العابرة في إطار مفهوم السيادة الوطنية وكيفية صونها. ولا يمكن ذات الوقت  إغفال الأعراف والقوانين الدولية المنظمة لذلك، والتي نصت عليها اتفاقية فيينا، التي تفرض على الدول حماية رعايا الدول الأخرى داخل أراضيها، سواء كانوا مواطنين أم لاجئين. هذه القوانين الدولية، مع احترام سيادة القوانين المحلية المستمدة منها، تؤكد أنه لا يجوز لدولة ما ارتكاب أفعال إجرامية بحق مواطني دولة أخرى.  

بناءً على ذلك، كان هناك تقصير واضح من قبل السلطات السودانية في هذا السياق، وفقًا للأعراف الدولية المتبعة بموجب اتفاقية فيينا. وفي تقديري، لا يوجد أي مبرر واضح لهذا الفعل الشنيع الذي ارتُكب بحق مواطني دولة أخرى. فمثل هذه الأفعال لا تعد مجرد تجاوزات قانونية، بل تمثل صورة بشعة تنشط الذاكرة التاريخية التي أشرنا إليها سابقًا.  

على الجانب الآخر، وفي إطار إدارة الأزمة محليًا في جنوب السودان، حاولت القيادة السياسية احتواء تداعيات الحدث وإرهاصاته من خلال نشر قوات أمنية للتصدي لأعمال الشغب. ومع ذلك، وقعت تجاوزات عنيفة في جوبا، أدت إلى فقدان أرواح مواطنين سودانيين على يد بعض الأفراد الذين نزلوا إلى الشوارع وأثاروا أعمال شغب،برغم من انها رد فعل الا انها ايضا اخطا وقعت، تتحملها الدولة اخلاقيا. 

الامر المهم التي ينبغي التركيز عليها هنا،هي التداعيات الدبلوماسية التي ترتبت على الأحداث الأخيرة. وقد جاء ذلك جليًا في خطاب وزير خارجية جنوب السودان أمام مجلس الأمن الدولي في يناير ٢٠٢٥م، حيث أشار صراحة إلى أن ما حدث لمواطنيه في ولاية الجزيرة يمثل أمرًا مقلقًا، وأعمال عنف تصل إلى مستوى الجرائم الدولية. كما وصف هذه الأحداث بأنها تجسّد مظاهر أنشطة الجماعات الإرهابية، معربًا عن قلقه إزاء صمت المجتمع الإقليمي إزاء حرب السودان وما قد يترتب عليها، وداعيًا إلى التدخل لإنقاذ الوضع.  

حديث وزير خارجية جنوب السودان، رمضان قوج، قوبل بموقف تصعيدي من وزارة الخارجية السودانية، التي أصدرت بيانًا أعربت فيه عن استيائها الشديد من الخطاب. واعتبرت ذلك أزمة حقيقية، مستحضرة موقف جوبا من الحرب السودانية، مع توجيه اتهامات مباشرة لحكومة جنوب السودان بالتورط في النزاع ودعم قوات الدعم السريع. وأكدت الخارجية السودانية أن لديها أدلة على مشاركة مواطنين من جنوب السودان في النزاع المسلح إلى جانب قوات الدعم السريع. كما رفضت بورتسودان دعوات جوبا للتدخل في الشأن السوداني، معتبرة أن جنوب السودان ينحاز لطرف في النزاع بدلاً من الوقوف إلى جانب السودان.  

من هنا ينبثق السؤال حول ما إذا كانت الأزمة الحالية ستؤدي إلى تصعيد دبلوماسي قد يصل إلى مستوى الاستقطاب والاستقطاب المضاد على الصعيد الإقليمي. حيث ترى بورتسودان أن جوبا تحاول استغلال العامل الخارجي لتأزيم النزاع الداخلي في السودان، مما يشكل قضية ملحة تستوجب البحث من قبل الفاعلين في قضايا البلدين. فأي تحليل سلبي للتصعيد الدبلوماسي الأخير قد يحمل عواقب وخيمة على الاستقرار الإقليمي.  

هناك مدارس تحليلية تناولت خطاب وزير خارجية جنوب السودان من منظور إقليمي ودولي، معتبرة أن خطابه قد ينقل الأزمة إلى مستوى جديد بدلاً من التركيز على المشكلة الأساسية. ويرى البعض أن جنوب السودان قد يكون الخاسر الأكبر في التصعيد، حيث قد يُجرّ إلى دائرة الصراع السوداني، مما يهدد استقراره النسبي. ومن بين هذه المدارس من يعتقد أن الحدث كان مدبرًا لإجبار جنوب السودان على الانخراط في النزاع، إلا أن هذا الطرح يفتقر إلى قوة التحليل لأن أساس الأزمة يكمن في تعقيدات العلاقات الثنائية والنزاعات التاريخية الطويلة.  

في المقابل، هناك مدرسة أخرى ترى أن ما حدث لمواطني جنوب السودان في ولاية الجزيرة يستحق الإدانة والشجب من منطلق إنساني وقانوني. وترى هذه المدرسة أن أي محاولة للتقليل من الجرم تعد تواطؤًا ضمنيًا مع مرتكبي الجريمة. غير أن هذا الاتجاه، رغم مشروعية رؤيته، قد يبالغ في تخوين كل من يخالفه الرأي، مما قد يعوق الحلول المنهجية لإدارة النزاعات الدولية.  

فمع ذلك ،إذا أخذنا في الاعتبار تعقيدات النزاع في السودان وتأثير العوامل الخارجية فيه، نجد صعوبة بالغة في تحديد معالم الخروج منه. على سبيل المثال، وجود عناصر من جنوب السودان مشاركين إلى جانب أحد أطراف النزاع السوداني يعد مسألة بالغة الخطورة، حيث يشكل تهديدًا للأمن القومي في البلدين. كما أن وصف هؤلاء الأفراد بـ”المرتزقة” لا يعفيهم من المسؤولية، لكنه في الوقت ذاته لا ينبغي أن يُحسب على دولة جنوب السودان ككل. ومع ذلك، فإن هذه الظاهرة قد تعكر صفو العلاقات الثنائية وتُعقّد محاولات التهدئة.  

لذلك، يتعين على قيادتي البلدين وجميع الفاعلين والنشطاء أن يدركوا واقع النزاع السوداني وتداعياته على الدول المجاورة. وينبغي أن يُؤخذ في الاعتبار ما يترتب على هذه الحرب من تهديدات للأمن القومي على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. ولتحقيق ذلك، يجب الابتعاد عن المواقف المدفوعة بالعواطف أو المصالح الفردية، والتركيز على تطبيق منهجيات إدارة النزاعات الدولية بما يتفق مع مفهوم السيادة الوطنية، الذي يركز أساسًا على حماية المواطنين وصون حقوقهم.  

للتواصل: Email:bathum44@yahoo.com

تم..

Translate »