لماذا ينتحر الشعراء؟ شعروا بأن قلوبهم أصبحت صحراء فارغة وأرواحهم ميتة

واجومانيوز

ريلكه  -  بول سيلان
ريلكه – بول سيلان

عبقرية كل أمة، شخصية كل أمة، تتجسد في شِعرها، في قصائدها. الشعر هو جوهر الأمم: إنه نسغها، لُبُّها، عصارتها. ما معنى الهند من دون طاغور؟ أو العرب من دون المتنبي؟ أو الفرنسيين من دون فيكتور هيغو؟ أو الإنجليز من دون شكسبير… إلخ؟ أو الإيطاليين من دون دانتي؟ أو الإسبان من دون سرفانتس؟… إلخ. الشعر هو اللغة، واللغة هي الشعر. كل الشعراء الكبار خلقوا لغة تدل عليهم، تفضحهم. وهذا ما ينطبق أيضاً على شعراء ألمانيا الكبار من أمثال غوته وهولدرلين وريلكه وحتى نيتشه. نعم نيتشه! لقد كان شاعراً كبيراً وليس فقط فيلسوفاً عبقرياً. لقد جمع المجد من طرفيه: مجد الشعر ومجد النثر. وهذا نادر. وتوَّج كل ذلك بالجنون!

من أهم شعراء القرن العشرين الذين تلوا عصر نيتشه نذكر ريلكه، وجورج تراكل، وبول سيلان، وآخرين كثيرين. كان ريلكه قد وُلد في براغ عام 1875 وابتدأ بكتابة الشعر بشكل مبكر جداً. ولكنه تنكّر فيما بعد لقصائده الأولى. ثم راح يرحل في البلدان بحثاً عن آفاق أخرى، فعاش في ألمانيا وبخاصة في مدينة ميونيخ الساحرة، حيث تعرف على تلك الحسناء اللعوب، لو أندريا سالومي، التي دوّخت عقول الرجال واستمتعت بذلك كل الاستمتاع دون أن تعطيهم شيئاً. اسألوا التعيس نيتشه! أما هو فقد أعطته كل شيء وأنقذته. ثم سافرا معاً في رحلة مشتركة إلى روسيا. وهناك قابلا تولستوي في مزرعته. ولكن اللقاء لم يكن جيداً لأن الكاتب الروسي الشهير كان في حالة نفسية يرثى لها بسبب الخصام العنيف والمتواصل مع زوجته صوفيا. ويبدو أنهما سمعا مشادة حادة وعنيفة جداً بينهما في الغرفة المجاورة. وقد خجلا عندئذ من نفسيهما إذ اطّلعا على ما لا ينبغي الاطلاع عليه. ألم نقل لكم إنه لا أحد مرتاحاً في هذه الحياة؟ لماذا تزوجت يا صديقي العزيز وأنت الغنيّ الأرستقراطي المترف الذي يستطيع أن يستغني عن الزواج؟ لماذا أنجبت 13 طفلاً فقط بالإضافة إلى الطفل رقم 14 بالحرام؟ لماذا أتعست نفسك بنفسك أيها الكاتب العظيم؟ لو بقيت حراً أعزب تتنقل من زهرة إلى زهرة، ومن بستان إلى بستان، أما كان ذلك أفضل؟ لا تلُمْ إلا نفسك. ولكن ما علاقتنا بالموضوع؟ لماذا نحشر أنفنا فيما لا يعنينا في كل مرة؟ ألا تكفيك مشكلاتك الشخصية أيها الإنسان المتفذلك المتغطرس؟ بأيِّ حق تعطي دروساً للآخرين؟ وهل الناس بحاجة إلى نصائحك أنت العاجز عن إنقاذ نفسك أصلاً؟

ثم ذهب ريلكه عام 1902 إلى باريس عاصمة الفنون والآداب والعشق والغرام، وفهمكم كفاية. وهناك تعرف على النحات الشهير رودان وأصبح سكرتيراً له، وظل يتردد على باريس طيلة اثنتي عشرة سنة متواصلة. وهناك تشكل ريلكه الحقيقي وابتدأ يكتب أعماله النثرية والشعرية الكبرى، ومن بينها رواية شهيرة بعنوان: «دفاتر مالت لوريدز بريدج»، 1910. وهي عبارة عن سيرة ذاتية مقنّعة. وذلك لأن بطل القصة ليس إلا توأم الكاتب ذاته. وهي تعد شكلاً ومضموناً أول رواية حديثة في اللغة الألمانية. وقد طرح فيها أسئلة ميتافيزيقية ووجودية أساسية: كالحب، والفقر، والموت، والخوف، والرعب، والهجران، والبحث عن الله. وفي عام 1912 ابتدأ كتابة مراثي الدوينو الشهيرة، ولم تنتهِ إلا بعد عشر سنوات عام 1922، حيث وصل إلى ذروة الكتابة الشعرية والفكرية والأدبية.

وبعد أن أنجزها شعر بفرح غامر وارتياح هائل وعرف أنه انتصر شعرياً وفلسفياً بالضربة القاضية! يقول عنها: «لقد أنهيتها خلال بضعة أيام فقط، لقد كان ذلك بمثابة عاصفة بلا اسم، كان إعصاراً روحياً داخلياً لم أشهده في حياتي كلها من قبل قط. لقد دمَّرني ذلك الإعصار وأحياني. الآن انتهيت وفرّغت كل ما عندي. لم يعد في أحشائي شيء. الآن يحق لي أن أتنفس الصعداء وأقول: لقد أنجزت مهمتي في الحياة». وبالفعل فقد مات بعدها بسنوات قليلة عام 1926 عن عمر يناهز الخمسين (مثل المتنبي).

على الرغم من كل إنجازاته وإبداعاته الخارقة هل تعلمون أن ريلكه لم ينل جائزة نوبل؟ وإنما نالها آخرون لا يصلون إلى كعب كعبه من حيث الإبداع والعبقرية. بل ولا حتى تولستوي نالها!

عجائز نوبل متى يستيقظون؟ متى يخجلون ويعتذرون؟

لنقرأ فقط هذا المقطع الصغير من قصيدة بعنوان: الصيف، أن تعيش لبضعة أيام معاصراً للورود منتعشاً بالجو المحيط بأرواحهن المتفتحة كان ريلكه مغرما بالورود إلى أقصى حد وبخاصة الورود الحمراء التي تنشر العطور حولها دائر ما اندار…. كان يسكر، يدوخ في مثل هذا الجو. كان يقدس الورود، يعبدها عبادة. وربما كان يعدها شخصيات حية مثل العشيقات. وما الفرق أصلاً؟ من المعلوم أن هذا الشاعر العبقري عاش فقيراً مدقعاً طيلة حياته كلها. وعلاوة على ذلك فقد كان يعيش على حافة الهاوية: هاوية القلق الجنوني القاتل والانهيار المؤجل في كل مرة عن طريق ضربة إبداعية خارقة.

هناك علاقة وثيقة بين العبقرية والجنون. وقد توقفتُ عندها مطولاً في كتابي الجديد الذي سيصدر لاحقاً عن «دار المدى» بعنوان: «العباقرة وتنوير الشعوب». أما الشاعر جورج تراكل فقد وُلد عام 1887 ومات منتحراً عام 1914 عن عمر لا يتجاوز السابعة والعشرين عاماً. وبالتالي فحياته الأدبية كانت قصيرة جداً، بل أقصر من حياة رامبو التي يُضرب بها المثل في القِصر. وعموماً تسيطر على أشعاره موضوعات كالخريف، والوحدة، والموت. لنستمع إليه يقول: على نافذتي يبكي الليل. الليل صامت ولكن الريح هي التي تبكي. الريح كطفل ضائع. لماذا تنتحب الريح وتعول هكذا؟

 

انحسار المسيحية عن وجه أوروبا الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت له آثار كارثية

 

 

في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1914 امتص جورج تراكل كميات ضخمة من العقاقير الطبية أو المخدرات ونام إلى الأبد. وبموته يختفي أحد كبار الشعراء في ألمانيا. وربما كان قد جسّد في الشعر ذلك المذهب الانطباعي الذي ساد في فن الرسم آنذاك. وهو مذهب مولع بالطبيعة جداً. ومن أشهر ممثليه: مانيه، ومونيه، وديغا، وفان غوخ، وكوربيه، إلخ. وقد صوروا الطبيعة بشكل أخّاذ وفي كل الفصول. من لا يحب اللوحات الانطباعية؟ أنا شخصياً أذوب فيها ذوباناً. كما أسلفنا آنفاً على الرغم من قِصر عمره فإنهم يعدونه أحد كبار شعراء القرن العشرين. يقال إنه قُبيل انتحاره عبَّر لأحد أصدقائه الخلَّص عن القلق الرهيب الذي يجتاحه من الداخل ويكتسحه اكتساحاً. قال له إنه يخشى السقوط في بحر الجنون الكامل. وأضاف هذه الكلمات: آه يا إلهي! ماذا حصل لي؟ ما ضربة القدر التي وقعت على رأسي؟ ارفع معنوياتي يا صديقي. ارفع معنوياتي. قل لي إني لن أصبح مجنوناً. قل لي إني سأمتلك القدرة على تجاوز المحنة. طمئنّي يا صديقي. قل لي إني لست مجنوناً. لقد أطبقت عليّ ظلاميات مرعبة كالحجر الأصم، كالقبر. آه يا صديقي لقد أصبحت صغيراً جداً ومتهالكاً… إنني تعيس يا صديقي، إنني حزين جداً ومدمَّر. (رسالة فجائعية تفطر القلب). هذا هو جورج تراكل. وهذه هي ضريبة الشعر والمجد. البعض يقولون إنه كان مفجوعاً بشيء أساسي دمَّر الحضارة الغربية ألا وهو: فقدان الإيمان بالله. وهنا اسمحوا لنا أن نغامر بالأطروحة التالية، وهي: أن كل الجنون الذي أصاب الشعراء الأوروبيين، وكل الانتحار الذي ابتُلوا به له علاقة بانحسار الدين عن وجه المجتمعات الأوروبية. لقد شعروا بأن قلوبهم أصبحت صحراء فارغة، وأرواحهم ميتة، بعد غياب ذلك الحضور الهائل الذي كان يعمر القلب إيماناً بالكائن الأعظم الذي يتجاوز الوجود ويتعالى عليه. لا يمكن فهم الآداب الأوروبية، لا يمكن فهم غرقها في مستنقع العبث واللامعقول والجنون والمخدرات وكل أنواع الشذوذ، إن لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار. انحسار المسيحية عن وجه أوروبا الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت له آثار كارثية ضخمة جداً. وكانت له آثار تحريرية هائلة جداً أيضاً! أما الشاعر بول سيلان فيعده البعض أهم شاعر ألماني بعد الحرب العالمية الثانية. وكان قد وُلد عام 1920 في رومانيا ومات منتحراً هو الآخر أيضاً في باريس عام 1970 بعد أن ألقى بنفسه من أعلى أحد الجسور الباريسية الواقعة على نهر السين. وقد انتحر في العشرين من شهر أبريل (نيسان) ولكنهم لم يكتشفوا جثمانه إلا بعد عشرة أيام، أي في الأول من مايو (أيار). (بين قوسين: لماذا ينتحر الشعراء كثيراً؟ ولماذا لم أنتحر أنا أيضاً؟ حتماً لأني لست شاعراً: فقط مجرد ثرثار على هامش الشعر…).

المصدر:الشرق الاوسط

Translate »