جنوب السودان : فانتازيا الخوف “الاثني” من فقدان السلطة
بقلم: شوكير ياد
أثبتت الأزمة السياسية في جنوب السودان ، مدى تجاهل القادة السياسيون لمعاناة الشعب وحجم الاهوال التي يواجهها هذا الشعب المغلوب على أمره، جراء ذلك الصراع السلطوي الإقتصادي.
فبينما إنشغل العالم بجائحة كورونا التي قضت على الأخضر واليابس ، وكيفية مجابهة هذا الداء اللعين، والبحث عن طرق الخروج من هذه المأساة الانسانية والتي تهدد الحياة البشرية دون إستثناء، إذ بقادة البلاد يتنازعون حول تقسيم كعكة الولايات في جنوب السودان. حيث كشفت أزمة الولايات ، حجم اللامبالاة للقادة السياسيين وتجاهل الشعب هذا الشعب المسكين والذي تم تغييبه عن أبسط حقوقه، والتي تتمثل في العيش الكريم.
فعلى الرغم من الفراغ الدستوري الذي خلفه عدم تعيين حكام تلك الولايات، والذي يخلق حالة من عدم الإستقرار السياسي وتعريض حياة المواطنين للخطر الا ان حكومة الوحدة الوطنية ، لم تهتم لذلك ، بل إستمرت في حالة التشاكس الغريب حول مسألة الولايات، والتي لم يتم حسمها الى هذه اللحظة ، رغم الاعلان عن مخرجات الإجتماع الوزاري الاخير والذي أسفر عن تقسيم الولايات بين شركاء الاتفاقية المنشطة. ولكن الغريب في الأمر ، أن مسألة تقسيم الولايات لم تكن من المسائل التي كانت محل شد وجذب أثناء التفاوض، بإستثناء مسألة تقليص او زيادة عددها .
ويمكن الحديث بأنه كان هناك شبه إتفاق غير معلن ، على أن تكون ولايات أعالي النيل، شرق الإستوائية ، البحيرات، ضمن النسبة المخصصة للحركة الشعبية في المعارضة جناح مشار. ولكن مع إنتهاء تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ظهرت معضلة الولايات الى السطح مرة اخرى، ولكن في سيناريو جديد يعكس واقع إستمرار الصراع السياسي بين القطبين الرئيسيين ، حتى في ظل الإتفاقية السلام المنشطة.
وقد نتساءل لماذا التصارع الآن حول تقسيم الولايات بعد تشكيل الحكومة الانتقالية..؟! ولماذا تراجعت الحكومة بقيادة كير عن منح الولايات المزكورة في السياق أعلاه لمشار؟؟!! وهل يتعلق الأمر ، بأبعاد إستراتيجية ، كالاحتفاظ بالتحالفات السياسية لاهداف مستقبلية مثل ” الانتخابات” ، ام هناك أسباب ودافع اخرى، تتعلق بأهداف إقتصادية بحتة ، تتمثل في أحكام السيطرة على المناطق الغنية بالثروات الطبيعية في تلك المناطق.
ولكن يتضح من واقع القرار الاخير الذي أصدره المجلس الرئاسي حول تقسيم الولايات ( منح المعارضة المسلحة ، ولايات غرب الاستوائية، غرب بحر الغزال، جونقلي) بروز الدوافع الإقتصادية على القرار. فشرق الإستوائية تعد إحدى الولايات التي تزخر بالموارد الطبيعية والثروات المعدنية الضخمة، الأمر يغري أي شخص ممارس للسياسة أن يحذو حذو الرئيس كير،وهو السيطرة عليها من أجل تعزيز موقعه في السلطة. حيث ان عنصر المال يعتبر عامل معزز للسلطة في أي مكان في العالم.
وتمثل حالة جنوب السودان خير نموذج لذلك والا لما نجح كير في إضعاف المعارضة المسلحة سياسيا وعسكريا، من خلال الإحتواء والإستقطابات السياسية والتي لعبت فيها الإبعادية المادية دورا كبيرا في نجاحها. وينسحب الأمر كذلك على ولاية أعالي النيل والتي يوجد بها آبار البترول والتي تمثل المورد الإقتصادي الاول في البلاد. اما ولاية البحيرات ، فربما يتعلق الأمر بهدف جيوسياسي بحت، يتعلق بضمان الابقاء على التحالف القديم، والذي يضمن بدوره إستقرار الإقليم ( بحر الغزال).
بيد أن الملفت في الأمر ، ان يضحي كير بولاية جونقلي الهامة والإستراتيجية ، لصالح ولايات أخرى مثل شرق الإستوائية. وهذا له مدلوله الخاص، والذي يتمثل في سلامة الفرضية التي تتعلق بطغيان الأبعاد الإقتصادية على الصراع. الأمر الثاني، والذي يمكن قراءته ما بين السطور، يتمثل في خطوة الرئيس نحو التخلي عن حلفائه من قيادات مجتمع بور في المستقبل المنظور، وذلك لتصورات لا يعلمها غير الرئيس كير نفسه، خاصة بعد الإبقاء على تحالفه مع قيادات مجتمع ” المورلي” من خلال منحهم إدارية خاصة بهم، وضمان تحالف بعض قيادات النوير التي تنحدر من جونقلي
. وقد تتعلق تلك التصورات ، بهواجس كير القديمة والتي ترتبط بنوايا معظم القيادات السياسية التي تنحدر من بور نحو السلطة التي سُلبت منهم بحسب إعتقادهم (*) ..!وهذا بدوره يجعله يعيد ترتيب أوراقه ، وبناء تحالفات جديدة من أجل الإستمرار في السلطة. وقد وجد ضالته هذه المرة في مجتمعات “المورلي” والتي لا تتعدى طموحات قياداتها السياسية حدود حكم مناطقهم الجغرافية. ومن هنا جاءت المفاضلة لصالح مجتمعات المورلي،والتي تزخر مناطقهم أيضا بثروات معدنية هائلة، وهنا يلاحظ تقاطع البعد السياسي الإقتصادي في تلك الجزئية.
يتضح من خلال السياق السابق، أن الأزمة السياسية في جنوب السودان، هي أزمة صراع حول الموارد في المقام الأول، وكيفية الإستحواذ عليها ، ومن ثم حمايتها . ويأتي دور الحماية هنا من خلال التمسك بالسلطة لتعزيز إستمرارية تلك السيطرة على تلك الموارد.
وما يمكن قوله في هذا السياق، ان الصراع حول الموارد ، لهو صراع مستمر ومتجدد، يصعب الوصول الى حلول ناجعة لمعالجته في أغلب الأحيان. ويتخذ هذا الصراع الإقتصادي، أبعادا وأشكالا مختلفة في كل مرحلة من مراحل صراع القادة السياسيون في جنوب السودان ، وهذا ما تعاني منه جنوب السودان طيلة تلك السنوات. فقد يتدثر الصراع في ظاهره في ثوب القبلية ، ولكن في الاساس ليس له علاقة بالابعاد الاثنية.
وهنا أستحضر مقولة أحد الأصدقاء ، والذي كتب في صفحته على “الفيسبوك” : اننا في جنوب السودان نعيش أزمتين، الأولى، أزمة مجموعة من النخب، إستطاعت أن تتفاهم فيما بينها من أجل نهب الدولة والإستمرار في السلطة. أما الثانية، فهي المخاوف الإثنية لبعض المجتمعات من فقدان السلطة. فإن لم نتحرر منها ” المجموعة، المخاوف” سنظل بلا دولة في وجود تلك النخب الحالية ، القابضة على السلطة.
فقد أصاب الرجل عين الحقيقية في تصوري، وهو تواجد “مجموعة معينة” تتشكل من معظم الإثنيات التي تمثل مكونات جنوب السودان، إتفقت فيما بينها على نهب ثروات البلاد. حيث يلاحظ ان تلك المجموعة والتي في ظاهرها تشكل التنوع الإثني في جنوب السودان، نصبت نفسها الراعي الرسمي لمصالح القبيلة. بيد أنه في حقيقة الأمر، تُعد مجموعة باحثة عن تعزيز مصالحها الخاصة ، بدليل الأوضاع الإنسانية السيئة التي يرزح فيها المواطن الجنوبي. وقد أتصور في تقديري البسيط، خطورة تلك المجموعة ، والتي تُعد أكبر وأخطر الأزمات في جنوب السودان؛ بدليل إستمرارها في السلطة، وإقصاءها لكل من يقترب من سلطتهم التي تؤمن لهم مشروعهم “النهبوي”، الذي يستند على ” الأيديولجية القبلية” ؛ وذلك عن طريق إستخدام “القبيلة” وإيهامها بضرورة حماية مكتسبات القبيلة “السلطة” من خطر المجموعات الاخرى. في حين أن الأمر لا يتعدى في الاساس حدود حماية أهدافهم الخاصة بعيدا عن مصالح القبيلة، والا كيف يتم تفسير ، حالة تلك المجموعة الإثنية، والتي يعيش معظم أفرادها تحت خط الفقر؟؟!
ما يدحض ” فانتازيا” هذه المخاوف الإثنية، والتي لا تستند الى اي منطق سياسي . حيث أنها مخاوف زائفة من صنع تلك النخب السياسية والتي إنسجمت اهدافها، تحت هذا المسوغ الغريب.
والغريب في الأمر ان تلك المنظومة الفاسدة تتشعب في كل مستويات الحكم في الدولة، من خفير، وزير، وكيل وزارة، مديرعام، موظف عادي، من يتقلدون مناصب قيادية في المؤسسات الشرطية والأمنية والعسكرية. بجانب منْ يديرون أموال تلك النخب التي إتفقت على ” سرقة” ممتلكات الشعب، والذين يتدثرون في ثياب رجال المال والاعمال.
من هنا يمكن الجزم بأن معضلة جنوب السودان، تكمن في تلك المجموعة ” المُتفاهمة” التي تتشبث بالسلطة من أجل الحفاظ على إستمرارية ” الشراب” نهب ثروات البلاد تحت مسوغ القبلية. وليس ببعيد عن أذهاننا تقريري “سنتري” الاول والأخير والذي يعكس حجم الفساد المستشري في أوساط النخب السياسية في جنوب السودان، والذي يعد دليلا دامغا على حقيقة الصراع السياسي .
إذن تلك المخاوف الإثنية من فقدان السلطة، ليست سوى أوهام تعيش في مخيلة من يعتنقون هذا المذهب اللعين..! فماذا إستفادت القبيلة من إعتناق القبلية سوى الدمار والخراب والفقر، بينما ظل المسؤولين يستمتعون، بكل خيرات البلاد..؟!
فكيف إقتنع الشعب بهذه القبلية الزائفة ، إذا كان يتم التصديق بمبلغ خرافي لمسؤول سياسي لأجل إقامة مراسم عزاء، بينما لا يجد الفرد العادي والمنتمي لذات الإثنية التي ينحدر منها ذلك المسؤول ما يسد به رمقه..؟!!
اوليس ذلك من المفارقات الغريبة والعجيبة..؟!
خلاصة الكلام، لقد إختبرنا القبلية وكانت المحصلة “صفرية”، حيث لم نجنِ من وراءها سوى الخراب والدمار، إذن فلماذا لا ننظر للجانب المشرق من التنوع الإثني الموجود في جنوب السودان، ونتعلم ثقافة وحدة الهدف والتعايش المشترك بين جميع المكونات الإجتماعية، عن طريق التخلي عن التبعية لتلك المجموعة التي تهمها مصالحها الخاصة. لأنه في حقيقة الأمر ، يتم نهب ثروات البلاد تحت مسوغ “القبلية ” من قبل تلك القِلة المستنفعة .
وختاما ، يأتي السؤال الجوهري الهام….
متى نتحرر من هذ الثلة ” الكليبتوقراطية”..؟! وكيف السبيل الى التحرر من تبعيتهم العمياء.؟؟
شوكير ياد
مايو 2020