صحيفة (الإستقلال) .. وتجربة الصحافة ما بعد الإستقلال- جنوب السودان (3-3)

واجوما نيوز

 

بقلم: موسس اجانق

ajangmoses4@gmail.com

المعوقات والتحديات:

مرت الصحيفة بالعديد من التحديات والمعوقات خلال مسيرة عملها التي لم تستمر طويلاً، بعضها متعلقة بطبيعة تكوينها الداخلي وأخرى معنية  ببيئة العمل الصحافي نفسها في ظل عدم وجود قوانين منظمة للعمل الصحفي بالبلاد وأخريات قاطعة بنظرة الدولة وفلسفة الحكومة تجاه اللغة المستخدمة، وفيما يلي بعض هذه النمازج :

(1) مشكلة الادارة:

وقع إختيار مجلس الإدارة على الأستاذ مصطفى سري الصحفي والإعلامي المعروف لرئاسة التحرير وذلك للإستفادة من خبراته في إدارة وتطوير الصحيفة ولكنه لم يوفق البتة في القدوم لجوبا والقيام بمهامه حتى توقف الصحيفة،  بيد أنه كان ملتزماً بالكتابة الراتبة للصحيفة تحت راية عاموده الصحفي اليومي (نقطة سطر جديد)، وكذا واجه الصحيفة أزمة عميقة أخرى – ولربما حسب آخرين أحد الأسباب الذي أودى إلى توقف الصحيفة- وهو إستئذان الأستاذ قمر دلمان (رئيس التحرير التنفيذي آوانئذ) وقراره بالعودة إلى المناطق المحررة وحاضرتها (كاودا) وذلك  بحكم نشاطه وعضويته في الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال. الأمر الذي أحدث فراغاً كبير لم تسد حتى توقف الصحيفة.

يقول مييك عن ذلك وبحرقة (بغياب قمر فقدنا الصحيفة –ولكن للحقيقة لسنا نادمين عن ذلك- لانه ذهب في مهمة أكبر تستحق المخاطرة ، لقد فقدنا قوة دفع المؤسسة الرئيسية. ويضيف (حاولنا جاهداً بعد ذهابه إستقطاب بعض الإداريين ولكننا لم نفلح، نتيجة لإرتباط بعضهم بمؤسسات أخري، الإنتماء السياسي الصارخ وضعف المقدرات في آخرين).

(2) التمويل:

لم تكن (الإستقلال) وحدها من عانت صنوف ضعف الموازنة المرصودة من قبل مجلس الإدارة بل جل الصحف والمؤسسات الإعلامية التي صدرت أو تأسست بجوبا، وذلك عائدة إلى خطر الإستثمار  في أجواء ملبدة بغيوم إنعدام الخط العام المرسوم وغيان القانون والمؤسسات بل والدولة في كثير من المعاملات الرسمية.

لذا تراصت توقف الصحف وموات العديد من المؤسسات الإعلامية كنتيجة منطقية لعجز إدارات تلكم المؤسسات في التكفل وتغطية نفقات العملية الانتاجية للإستثمار في هذا القطاع المحاط  بالعديد من الترسبات والأخطأ في كل شي بالبلاد و(الإستقلال) كواحدة من تلك الصحف قد وقعت ضحية هذه الممارسة، وهذا رغم النفي المطلق من قبل رئيس مجلس الإدارة بعدم تعرض الصحيفة لأي مشكلة في (التمويل) كواحدة من مسببات التوقف. يؤكد قمردلمان في الإتجاه الأخر  تأثر الصحيفة بهذه العامل من موقعه كرئيس التحرير التنفيذي، أضف لذلك ضعف العائد المادي من مبيعات الصحيفة وغياب الإعلانات وقتها.

(3) الكتاب وغياب التدريب:

هي واحدة من الصعوبات التي واجهت وتواجه أي صحيفة صادرة ناهيك عن دولة كهذه خارجة للتو من أتون حرب ضرورس إستمرت لما فوق الخمسين عاماً في رقعة الإقليم الجنوبي نفسها، فجوبا العاصمة حيث قلة كتاب الرأي ذات الأسماء الجاذبة  خاصة وأن غرضه –كما يقول مييك- من تأسيس صحيفة الإستقلال كانت لتشجيع الكتابات الجنوبية. ولكن غيابه أو بالأحرى قلته أثرت بالسلب على المنتوج الصحفي التراكمي للصحيفة،  دون أن ننسي غياب التدريب، التاهيل والكادر الذي يحسب كخطأ مشترك ناتجة عن السياسات الموجهة التي إتبعتها الحكومات الشمالية بتوجيها كل المؤسسات بما تتماشي مع سياساتها الإقصائية إضافة إلى إنعدام خطط وموجهات التدريب في كل المؤسسات الإعلامية العاملة.

 يقول دلمان عن حالة (الإستقلال) ووضعية التدريب بأنهم قد بدأوا  العمل بـ(4) صحفيين فقط، ثلاثة منهم كانوا تحت التدريب، فتخيل حجم المعاناة، وقس على ذلك نوعية وحجم المادة المقدمة حينها.

(4) الطباعة:

واجهت الصحيفة صعوبات جمة فيما تعني الطباعة نتيجة عدم وجود مطابع عاملة بجوبا وبعموم جنوب السودان وقتها، إذ تجولت الصحيفة أزاء هذا الوضع  بين الخرطوم وجوبا لحل تلكم المعضلة الرئيسية، ففي حين  بدأت الإدارة نقاشات جادة لم توفق فيها مع مطبعة ستيزن ومالكها الأستاذ نيال بول اكين، رأت أيضاً إبتدار مباحثات أخرى وصلت لمستويات متقدمة لجلب مطبعة خاصة لها لجوبا بتمويل إستثماري من بنك الجبال للتنمية لم تكتمل بعد  لظروف خارجة عن إرادة الطرفين، وقد إنتهت الحال بعد كل تلك المحاولات  بالعمل بخيار الطباعة بالخرطوم عقب الحصول على تصاريح الطباعة نتيجة لخطاب تعاون بعث بها وزارة الإعلام بحكومة الجنوب إلى الحكومة الإتحادية التي لم تتوان في الموافقة على الطلب آنفة الذكر.

 (5)المضايقات الأمنية:

(تم مضايقتي حتى في بعض أعمالي التجارية) بهكذا عبارة إبتدر الأستاذ عبدالله مييك إجابته عن كم المضايقات التي لاقت صحيفته. حيث يقول: تعرضت (الإستقلال) لمضايقات كبيرة في الخرطوم حيث عانت الصحيفة من الرقابة القبلية من جانب الأمن السوداني الذي كان يسحب أو يحذف العديد من المواد والمقالات أحياناً، وتصادر أعداداً كاملة  في أحايين أخرى دون علمنا، كما تعرضت مطبعة الكاظمية التي كنا نطبع منها لتهديدات ومضايقات بسحب وإلغاء ترخيص العمل والمزاولة الخاصة بها، وكذا عانينا من صعوبات جمة في الترحيل من الخرطوم لجوبا نتيجة التأخير المتعمد من أمن مطار الخرطوم وذلك بتعقيد إجراءات الشحن والتحميل، جل الأسباب كانت معنية بالخط العام للصحيفة وأخرى متعلقة  بوجود مصطفى سري وقمر دلمان ممن تصنفهم الخرطوم كمعارضين لها على رأس الإدارة التحريرية للصحيفة كما وربط ونسب الصحيفة بعلاقات وثيقة بالحركة الشعبية-شمال وبالنوبة وبالمعارضة الشمالية عموماً، وأيضا تعرض رئيس مجلس الإدارة الأستاذ عبدالله مييك في فترات متفاوتة لإعتقال مرات عديدة في كل من الخرطوم وكادوقلي.

أما دلمان فيقول: لم تصدر الصحيفة مرات عديدة بسبب المصادرة من قبل الأمن السوداني وتصنيفها للصحيفة كمؤسسة معادية لنجاح الصحيفة  في الكشف عن تمويل الخرطوم لحركات مسلحة جنوبية تحارب وتعمل على تغيير النظام في جوبا.

أما عن المضايقات الأمنية في جوبا وبحسب مييك إستعرض: لم نتعرض لمضايقات إلا تلك المرتبطة  بأعمالي التجارية الذي بدوره أثر بالسلب على دعمي للصحيفة لأنها جزء من أعمالى الخدمية للمواطن، أيضاً إستطعت مواجهة وحل بعض الهفوات والإتهامات بطريقة ودية ونحمد الله أنها لم تخرج عن السيطرة، وساعدتني في ذلك علاقاتي الواسعة، وعضويتي بل وإنتمائي للحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب.

 (6) النظرة السلبية للغة العربية وضعف نسب التوزيع:

العربية كلغة متداولة في جنوب السودان حقيقة ثابتة لامفر منها ولا تجب حين التعاطي معها أن نرتكب نفس خطأ السودان القديم  ببتر الإنجلزيية عقب الإستقلال بحكم أنها لغة المستعمر أو لغرض إستبدالها بلغة محسوبة على مشروع سياسي وإجتماعي معين. و يقول مييك عن ذلك (أشجع بقاء العربية في جنوب السودان كلغة تواصل ولا يجب –أو هكذا أرى- أن نقف أمام إستمرار العربية أو محاولة القزف بها بعيداً،  لأن في ذلك  ظلم كبير وتعطيل متعمد لجيل كامل نشأ بالسودان والمنطقة العربية، فالجمع  بين اللغتين الانجليزية والعربية مهمة و تميز غير منظور لنا في جنوب السودان والمنطقة الشرق إفريقية على الأقل).

فواحدة من الصعوبات التي واجهتنا عند الصدور -مييك مواصلاً- تمثلت في النظرة السلبية للغة العربية من قبل المسئولين وذهدهم عن الحديث إلى الصحافة الناطقة بالعربية لظن إرتباطها بالحكومة الشمالية أو المركزية ومنبر السلام العادل الذي كان يقوده الطيب مصطفي وصحيفته الكريهة (الإنتباهة) و(الصيحة) فيما بعد والذي تقنن وتفنن دون مساءلة في سب الجنوبيين، دارفور ومناطق الهامش السوداني حين  قاد حملة وشاية عنصرية منظمة ضدهم وبالطبع ضد الحركة الشعبية وقوى دارفور  المسلحة.

أثرت كل ذلك في  إضعاف نسب التوزيع، لضعف التعاطي مع اللغة العربية كما أسلفنا وفي المنتوج الصحفي اليومي، وعدم إحترافية شركات النشر والتوزيع، وضعف ثقافة القراءة علاوة على نسب الأمية المرتفعة بعموم الدولة والمقدرة بما يفوق الـ80% م سكانها.

(7) الإنجراف والتسرع :

ضعف التخطيط وعدم وجود  دراسة واقعية موضوعة أو أرقام وإحصائيات سابقة يمكن المراهنة أو الإستقراء منها، وتهكم المزاجية والإنفراد بالقرار الإداري لكون أنها مملوكة بالكامل لشخص أو مجموعة معينة، أثرت بالسلب على إستقرار وبقاء الصحيفة بل وإستمراريتها في الساحة الإعلامية.

فكثير من الصحف والمجلات إنتهت بها الحال لنفس الأسباب ولعدم الإنتباه إلى أن العالم الحالي لم تعد تدار بتلكم العشوائية والإسترجال بل بالأسترجة والتخطيط وهي مانفتقدها في العديد أن لم تكن كل المشروعات الإعلامية تقريباً في جنوب السودان.

مستقبل (الإستقلال) والعودة  المحتملة:

ودون حتى تقديم مسببات للإختفاء توقفت (الإستقلال) فجأة  تاركة وراءها العديد من التساؤلات والإستفهاميات دون إجابات تذكر أو حتى إفهام قراءها أو المتحمسين الذين بدءوا في الرد إلى الخرطوم عبر صحيفة تخصهم وتدافع عنهم بأنها عائدة يوماً  لامحالة، ولكنها إختفت فجاءة وبلاعودة وقد مضي منها وحتى اللحظة مايقرب إلى العقد من الزمان.

حملنا كل هذا إلى رئيس مجلس الإدارة الإستاذ عبدالله مييك والذي قال بجراءة: لست متردداً  في العودة ولكنها مرتبطة إربتاط وثيق ببعض العوامل أهمها الوصول لبعض التفاهمات مع من يرى في نفسهم الرغبة في الدخول في هذا المجال، كما عبر عن إستعداده الكامل للجلوس مع أي من يرى في نفسه المساعدة لمعاودة تشغيل الصحيفة.

 فأنا نادم على الفشل السابق –مييك بحسرة- ولم أكن أقصد توقف الصحيفة لأن طموحها كانت بناء مؤسسة إعلامية متكاملة تمتلك صحيفة انجليزية، إزاعة وتلفزيون تتم بثها عبر الأقمار الإصطناعية.

الخاتمة:

كانت تلك محاولة يائسة لنبش رفاة صحيفة خرجت إلى القراء يوماً في وقت عصيب على المستويين السياسي والإعلامي، ورغم ما يمكن أن يقال عن تجربتها بالنقد والتنكيل الا أنها وخلال مسيرتها القصيرة قد أخرجت إلى النور بعض الوجوه الجديدة هم الآن أعمدة ثابتة في الساحة الإعلامية، مثلها مثلما أعطت فرص لكتابات رأي ومقالات  من الصعوبة بمكان أن تجد حظها من  النشر في صحف الخرطوم.

(الإستقلال) كرؤية وفكرة قامت كمؤسسة ضخمة ولكنها إختفت سريعاً كما العديد من الصحف التي إتبعتها بلا سابق إنذار أو نتف ملاحظ، ومن هنا تجئ دعوتنا لكل من في نفسه الرغبة باالإستثمار في هذا المجال بمناقشة تجارب تلكم الصحف قبل القيام بأي تجربة أخرى قد تسلك نفس الطريق وتتبع المصير الوعر نفسها، ولي أن أهمس بأن أصحاب وملاك تلكم التجارب حاضرين بيننا أخوة وأصدقاء بل وزملاء لم يبخلوا البتة كما فعلوا حين رأيت الكتابة عن كل التجارب الأعلامية مابعد الاستقلال وما إعترت مسيرتها من تحديات وتعقيدات.

شكري ممتد للأستاذ عبدالله مييك كولانق، جاتيكا اموجا دلمان ووليم ساندي دي تور لصبرهم  معي وتساهلهم مع تعقيدات تساؤلاتي وزياراتي المتكررة لهم وعليهم مما ساعد في إنجاز هذه المادة التي لا أرى أنها تلبي طموحكم، ولكنها كوعد صادق بداية حتما ستتلوها الكثير بالشرح والإستفاضة بل والتنقيح والبحث المضمني.

تحياتي لكم جميعاً والسلام عليكم.

 

Translate »