
الخرطوميون: من هم؟ وما هي مساهماتهم في الكفاح من اجل التحرير؟
واجومانيوز
بقلم: أتينج ويك أتينج
إن استخدام كلمة «الخرطوميين» (Khartoumers) هو في جوهره دعاية كاذبة ومضللة. لقد سمعت هذا الوصف كثيرًا في كل مرة يحدث فيها أمر غير سار يخص أحد الذين يتحدثون العربية. فقد يزورك صديق لأول مرة ويجدك تستمع إلى الأخبار بالعربية، فيبدو عليه الارتباك، ويسألك بدهشة: «هل أنت خرطومي؟» فأجيبه دائمًا: لا، أنا فقط أتحدث العربية كلغة ثانية.
وكأن الذين يتحدثون الإنجليزية يمكن أن يُطلق عليهم «لندنيون»، حتى وإن لم يعرف بعضهم موقع لندن على خريطة العالم! لا يدرك كثير من الناس أن اللغة العربية لغة عالمية، وهي الخامسة من حيث عدد المتحدثين بها في العالم. فكما يوجد شباب وفتيات يتقنون اللغة الإنجليزية دون أن تطأ أقدامهم أرض إنجلترا، فإن العربية أيضًا لغة يمكن تعلمها حتى في الصين.
لقد درستُ اللغة العربية في قريتي مليك أليل في أويل الجنوبية في سبعينيات القرن الماضي، وعندما ذهبت إلى الخرطوم كنتُ بالفعل أتحدث وأكتب العربية بطلاقة. لذلك ينبغي أن يُفهم أن كل من يتحدث العربية لم يتعلمها بالضرورة في الخرطوم.
يتحدث العربية أكثر من 300 مليون شخص من أصول عربية في 21 دولة عربية. وهناك نحو 150 مليون شخص آخرين يتحدثونها كلغة ثانية، بينما يقرأ بها قرابة 500 مليون مسلم في العالم من خلال القرآن الكريم. إنها لغة يقارب عدد مستخدميها مليار إنسان، ولذلك فهي لغة مهمة وشريفة ينبغي تعلمها لا محاربتها أو الانتقاص منها.
ليس صحيحًا أن كل من يتحدث العربية يُعد «خرطوميًا». فالخرطوم مجرد عاصمة لبلد عربي واحد من بين 21 عاصمة عربية أخرى. فالعواصم العربية الأخرى تشمل القاهرة وطرابلس وأبوظبي والدوحة والجزائر وغيرها. جميع مواطني هذه الدول من أصول عربية ويتحدثون العربية، ومع ذلك لا يُطلق عليهم «قاهريون» أو «طرابلسيون» أو «دُحويون». لا يمكننا الاستمرار في تبرير الجهل أو التفاخر به.
إن الجهل ليس فضيلة، ولا يجوز التباهي به. لم تتح لي فرصة تعلم الفرنسية أو السواحلية مثلاً، لكن ذلك لا يجعلني أفضل ممن يتحدثونها. وبالمثل، فإن عدم معرفة العربية فقدان لفرصة ثقافية لا ينبغي أن يُحتفى به. فلا توجد لغة «للأعداء»، لأن فهم العدو يتطلب معرفة لغته بالضرورة.
يمكن تقسيم أجيال المحررين الذين قادوا كفاح جنوب السودان إلى جيلين رئيسيين:
الجيل الأول، بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، ضمّ المثقفين الجنوبيين الذين تلقوا تعليمهم على أيدي المرسلين المسيحيين، مثل: الأب ساترلينو اهورو ، وأقري جادين لادو، وجوزيف أودوهو ، وليم دينق نيال، هؤلاء لم يكونوا يتحدثون سوى الإنجليزية ولغاتهم المحلية. وجاء من بعدهم من قاد حركة أنيانيا نحو اتفاقية أديس أبابا، مثل: جوزيف لاقو ، وإيمانويل أبور ، وفريدريك ماقوت، وصموئيل أبو جون كباشي، وغيرهم.
أما الذين واصلوا النضال داخل السودان فكان من بينهم: السير بوث ديو، وسانتينو دينق تينق، وجوزيف قرنق ويل، وأبيل ألير كواي، وستانسلاوس بايسما، وعبدالرحمن سولي. وقد كانوا جميعًا يتحدثون الإنجليزية إلى جانب لغاتهم المحلية، أو القليل من العربية غير المكتوبة للتخاطب مع العامة أثناء وجودهم في الخرطوم.
ثم جاء الجيل الثاني من الثوار الذين أكملوا مسيرة التحرير، وهم: الدكتور جون قرنق دي مبيور، وكاربينو كوانين بول، ووليم نيون ، سلفا كير ميارديت، وأروك طون أروك. هؤلاء المؤسسون للحركة الشعبية لتحرير السودان كانوا جميعًا «خرطوميين» بمعنى أنهم درسوا في مؤسسات سودانية مثل كلية وادي سيدنا العسكرية، وكانوا يتقنون العربية بطلاقة وعملوا في الجيش السوداني.
وجميع قادة الجيش الشعبي لتحرير السودان ونوابهم، كانوا وفق هذا المفهوم «خرطوميين»، لأنهم يجيدون اللغة العربية كتابةً ونطقًا.
أما الجنود المقاتلون فكان أغلبهم من خلفيات ريفية رعوية، وقد اصطحبوا أبناءهم أو أنجبوهم في ميادين القتال. وحتى الطلاب الذين انضموا للحركة الشعبية بين عامي 1983 ومنتصف التسعينيات كانوا في الغالب يتحدثون العربية، وتعلم بعضهم الإنجليزية ذاتيًا أثناء النضال.
ومن الحقائق الثابتة أن الدفعة الثانية من الثوار – أي “الخرطوميون” – هي التي نجحت في تحرير البلاد. يمكن تصنيفهم إلى «خرطوميين الأوائل» و«الخرطوميين اللاحقين»، لكن فكرهم واحد: تلقوا تعليمهم على يد العرب، ولذلك فهموا عقلية التهميش التي مارسها النظام في الشمال، واستطاعوا التعامل معها بوعي وحنكة.
وأخيرًا، من المُجحف جدًا أن يُنظر إلى من يتحدث العربية باعتباره أقل وطنية. فكل الذين قادوا مسيرة التحرير واستقلال جنوب السودان كانوا متحدثين بالعربية. لذا، ينبغي أن نتوقف عن الافتخار بالجهل، وأن ندرك أن اللغة ليست مقياسًا للوطنية، بل وسيلة للفهم والتواصل والنهضة.