وكتب فرانسيس مايكل..أبطال التحرير منسيون والقبيلة تحكم: هل انتهت تضحيات الأبطال هباءً؟

واجومانيوز

بقلم: فرانسيس مايكل

منذ استقلاله في عام 2011، واجه جنوب السودان تحديات كبيرة؛ بسبب تاريخه من الحروب الأهلية والانقسامات القبلية. هذه الأمور منعت بناء دولة قوية وموحدة، وما زالت تؤثر في استقراره حتى اليوم. السبب الرئيسي هو أن قادة البلاد غالبا ما ينظرون إلى الأمور من منظور قبلي، مما يعيق أي محاولة لبناء مؤسسات وطنية قوية ومستقلة.

الرئيس سلفاكير، وهو شخصية رئيسية في جنوب السودان، تعرض لانتقادات كثيرة بسبب الفشل في إدارة الدولة “الحزب الحاكم”، بجانب انتهاكات حقوق الإنسان، والفساد، وسوء الإدارة، كما أن فشلت سياساته الهادفة إلى المصالحة، مما أدى إلى خيبة أمل واسعة. الأدهى من ذلك، أن حكمه عزز المحسوبية والولاءات القبلية، فباتت التعيينات الحكومية وتوزيع الموارد والخدمات وحتى تطبيق القانون تعتمد على الانتماء القبلي “الولاءات السياسية الضيقة”. هذا جعل الدولة أداة في يد بعض القبائل، مما أثار غضب وتهميش القبائل الأخرى، وأصبح بعيداً عن مراكز اتخاذ القرار، ويعتبرون أنفسهم “أبرياء من مهزلة الفشل”، هذا أدى إلى تفكك المجتمع وزيادة الانقسامات.

في خضم هذا الوضع، تم نسيان وتهميش أبطال حرب التحرير الذين ضحوا بحياتهم من أجل استقلال جنوب السودان. هؤلاء الجنود يعيشون اليوم في فقر مدقع دون أي دعم أو اعتراف بتضحياتهم أيضا. لا توجد برامج لتأهيل المحاربين القدامى، ولا رعاية صحية كافية، ولا فرص عمل، من إهمال أسر الشهداء الذين تُركوا لمواجهة الفقر دون اهتمام من الدولة. هذا ليس مجرد إخفاق أخلاقي، بل يهدد الاستقرار؛ لأنه يفقد الثقة بالقيادة، ويخلق شعورا بالظلم والغضب.

النقطة المهمة هو تغييرات القيادة المتكررة، سواء بسبب الصراعات السياسية أو العنف أو محاولات إيجاد أشخاص المناسبة لشغل المناصب الدستورية “بحسب تصريحات الرئيس سلفاكير في وقت سابق”، لكن الواقع هو أن كل انتقال إلى السلطة يخلق فراغا يؤدي إلى المزيد من العنف وتفكك التحالفات الهشة. هذه التحولات هي في الأساس صراعات بين النخب القبلية للسيطرة على السلطة والموارد. كما أن غياب قيادة مستقرة يجعل من الصعب تنفيذ سياسات طويلة الأجل لبناء الدولة، مما يجعل جنوب السودان في دائرة مفرغة من عدم اليقين.

النقطة الثانية هو عدم الاستقرار السياسي الذي أثر سلبا على الاقتصاد، خاصة وأن جنوب السودان يعتمد على النفط. وعدم اليقين حول القيادة قلل من الاستثمار الأجنبي وأعاق التنمية الاقتصادية. كما أن الصراعات المستمرة تعطل إنتاج النفط، وأدى إلى خسائر فادحة في الإيرادات، ويزيد معاناة الشعب. حاليا المستثمرون يترددون في المخاطرة بأموالهم في بلد لا يضمن الاستقرار السياسي أو مؤسسات قوية، خاصة عندما يرون أن القرارات الاقتصادية تتأثر بالولاءات السياسية والقبلية عوضا عن المنطق الاقتصادي.

حاليا تغيير الولاءات السياسية والمناصب الحكومية على المستويين المحلي والوطني أثر إلى حد بعيد على تطوير البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية وتوفير الأمن الذي هو أساس الاستقرار. هذا أدى إلى انتشار الفقر والبطالة والفساد. والسبب هو أن تخصيص الموارد والمشاريع لا يتم بناءً على الحاجة أو الأولويات الوطنية، بل على أساس القوى القبلية والتحالفات المتغيرة. وتُحرم مناطق بأكملها من الخدمات الأساسية إذا كانت قبائلها غير موالية للحكومة، مما يزيد الفجوات التنموية، ويغذي مشاعر الإحباط والتهميش.

بالنظر إلى المستقبل، واستمرار التغييرات المتكررة، يعتمد السلام والحكم المستقر في جنوب السودان على بناء أطر سياسية شاملة وقيادة ملتزمة. لكي يتقدم جنوب السودان، يجب معالجة الأسباب الجذرية للصراع ووقف التغييرات المستمرة، مع إعطاء القيادات فرصة للاستقرار والعمل. يجب أن يشمل هذا معالجة الانقسامات العرقية والتفاوتات الاقتصادية التي تغذي الصراع. الأهم من ذلك، يجب على جنوب السودان تجاوز فكرة الدولة القبلية وبناء دولة المواطنة التي تساوي بين الجميع. يجب أن يصاحب ذلك اعتراف صريح وفعال بتضحيات أبطال حرب التحرير، وتوفير الرعاية والدعم اللازمين لهم ولأسر الشهداء، كدليل على وفاء الدولة لمبادئها وقيمها وتعزيزا للوحدة الوطنية.

أخيرا لا يمكن للأمة أن تحقق سلاما واستقرارا دائمين إلا من خلال المصالحة والإصلاح الحقيقيين، والعمل على بناء دولة مؤسسات لا تخضع للمناورات السياسية أو الولاءات القبلية، بل تخدم جميع أبناء الوطن على قدم المساواة، وتكرم من ضحوا من أجله.

الخلاصة هي، أن هكذا يبقى جنوب السودان في مفترق طرق خطير. فبينما تتصارع القبائل على السلطة، وتُحكِم قبضتها على مفاصل الدولة، يلقي بظلال النسيان والإهمال على أولئك الأبطال الذين سالت دماؤهم من أجل هذا الوطن، والسؤال المرير الذي يتردد صداه في كل زاوية من هذا البلد الفتي هو: هل كانت كل تلك التضحيات الجسيمة هباءً منثوراً؟ وهل سيبقى حلم الدولة الموحدة والمدنية مجرد سراب في ظل هيمنة الولاءات القبلية وخذلان من ضحوا بالغالي والنفيس؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على قدرة قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان على تجاوز سوابقهم التاريخية، والنهوض من رماد الانقسامات، تكريماً لدماء الشهداء وتضحيات الأبطال.

Translate »