مناطق إدارية مستقلة – “سياسة فرّق تسُد” صفحة من الإرث الاستعماري

واجوما نيوز

 

بقلم: دكتور بيتر أُدوك نيابا

مقال مترجم

بالإمعان في بيان الحكمة ألّذي قدمه البروفيسور جون لونسديل وقال فيه إنّ “الأفارقة اعتادوا على العيش معًا كإثنيات تفاوضيّة، إلى أن جاء الحكم الاستعماري وحولهم إلى قبائل متنافسة” ، فمن السّهل ادراك الخواء والغرور وراء قرار إنشاء مناطق ادارية مستقلة في كلٍ من روينق وبيبور في ولايتي الوحدة، وجونقلي على التوالي، ووراء الدّعوة الأخيرة ألّتي قدمها القسّ المبجّل جشوا داو ديو، في مذكرةٍ وجهها إلى الرئيس سلفا كير ميارديت، داعيًا فيها إلى إنشاء مملكة الشلك كمنطقة إدارية مستقلة في ولاية أعالي النّيل. هذه المذكرة، لا تدعو إلى إبعاد بعض المجتمعات فحسب، بل تخلق شعور متناقض بالأخوة والإنتماء.
خاض شعب جنوب السّودان وغيره من المناطق الطرفية الأخرى في السّودان، حرب التحرير الوطني في السودان الجنوبي (1983-2011)، ظاهريًا لتدمير وإعادة بناء الدّولة السّودانية التي تم تعريفها خطأً بأنّها دولة عربية وإسلامية، رغم ما يتسم بها من تعدد عرقي وديني ولغوي وثقافي. للأسف، تم تنفيذ الحرب خارج سياقها السياسي والأيديولوجي. انتجت هذه الحرب في الجنوب، نخبةً عسكريةً سياسيةً معزولة تمامًا عن جماهير الشعب من حيث غياب مسار واضح للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. تحوّلت هذه النخبة، مباشرةً بعد اتفاق السّلام الشّامل، إلى طبقةٍ رأسماليةٍ طفيليّة تعتمد على علاقتها بالدولة ومواردها لإعادة انتاج ذاتها من خلال التراكم البدائي للثروة، بالتعاون مع وكيل الرّأسماليّة الإقليميّة والدّوليّة لاستخراج ونهب الموارد الطبيعية لجنوب السّودان.

إنّ عملية تراكم الثروة البدائية ألّتي تُحصل عليها بشكلٍ رئيسي من موارد الدولة، تحدث بصورة تنافسيّة وصراعية. لذا، فقد أفضت إلى حدوث صراع سياسيّ مرير داخل هذه الطبقة النخبويّة للحصول على السّلطة، والسيطرة على هذه الموارد واحتكارها. نسبةً للجهل العام، وطبيعة الثّقافة السياسيّة المتخلّفة في جنوب السّودان، برز هذا الصّراع بشكلٍ واضح بين عشائر، ومجموعات إثنية، وبلداتٍ في جنوب السّودان كله، مُقحمًا البلاد في حربٍ أهلية طاحنة، مصحوبة بأزمات اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ حادة جعلت الشّعب ينغمس في صراعاتٍ عشائرية وعرقية ضد بعضها بعضًا.
إنّ الفكرة، والمراسيم الجمهورية ألّتي صُدِرت بإنشاء مناطق إدارية مستقّلة لدينكا روينق بولاية الوحدة، وبيبور بولاية جونقلي، ليسّ إلّا تأكيدًا لإفلاس النّظام السّياسي، وعجزه عن معالجة تناقضات المجتمع الناتجة عن التنوع السّوسيوثقافي. في عام 2012، انتقلت السّلطة السياسية من الحركة الشعبية- بصفتها الحزب الحاكم- إلى مجلس أعيان الجينق، وأدى ذلك إلى اعاقة وتعطيل مؤسسات الدّولة. منذ ذلك الحين، صار أي قرار يتعلق بالدينكا وجيرانهم من الإثنيات الأخرى، يتم بطريقةٍ تؤكد سيادة جينق [اقرأ الطبقة الرأسماليّة الطفيلية] على المصالح الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة للآخرين.

في ولاية الوحدة، عاشت بان أرو، وألور، وروينغ، في سلامٍ مع جيرانهم النّوير. لم يكُن هذا التكوين العرقي والديموغرافي مصدرًا لمشكلةٍ بين الدّينكا والنوير، هناك. بيد أنّ إساءة استخدام الموارد الاقتصادية والسياسية للدولة، ألّتي أدّت إلى تهميش الدّينكا من قِبَل الحاكم تعبان دينق قاي، هي ألّتي أثارت مشكلةً بين مجتمعات العرقيتين.
عندما هبّ شعب ولاية الوحدة ووقف ضد الحاكم تعبان دينق قاي، وهزمه في الانتخابات الحزبية لقيادة الحزب في الولاية ، تدخل الرّئيس سلفا كير لحماية وفرض تعبان دينج قاي. لكنّه أُزيل من منصبه في عام 2013 رغم أنّ ذلك قد حدث في سياقٍ آخر عَجّل من انفجار شهر ديسمبر العنيف. يثبت هذا، دون أدنى شك، بأنّ العلاقات داخل وبين الإثنيات، تتوقف على مهمة وقدرة النّظام الحاكم على إقامة العدل والإنصاف في توزيع الموارد بينهم.
لذلك، فإنّ إنشاء منطقة روينغ الإدارية المستقلة في ولاية الوحدة، ألّذي بدا ظاهريًا، لعزل وحماية أقليات الدينكا من النوير، هو خُدعة لإدامة استخراج ونهب الموارد، وفساد وتدمير البيئة. منذ أمد طويل، بلغ شعب الدينكا في ولاية الوحدة أو منطقة بانتيو في ولاية أعالي النيل، توازنًا مستقرًا في التفاعلات السوسيواقتصادية، والاجتماعية مع جيرانهم النوير. ذات الشيء، يمكن قوله عن مختلف التكوينات الاجتماعية والثقافية في جنوب السودان، وأجزاء أخرى من أفريقيا حققوا توازنًا مستقرًا عبر مفاوضات يتم فيها تبادل السّلع وما إلى ذلك؛ التوازن المستقر ألّذي قوّضه ودمّره الاستعمار في سياق سياسة فرق تسُد.

من الواضح، كان إنشاء ولاية أعالي النّيل من ضمن الـ 32 ولاية، تهدف إلى تمكين اقسام دينكا بادانق في أعالي النّيل (أبيلانق، أقير، نجيل، دونغجول، نقوك) وكلٍ من لواج وباوينغ ألّذين جُلِبوا من ولاية جونقلي لتعزيز ودعم ديموغرافيا الدينكا في ولاية أعالي النّيل، واحتلال أراضي أجداد الشّلك في شرق نهر النّيل. هذا البناء الاجتماعي والسياسي، اقتلع تمامًا، ونَزّحَ بقوةٍ، السّكان الشّولو ألّذين يعيشون على الضفة الشرقية لنهر النيل، على طول الطريق من تونجا جنوبًا، إلى ديطوُك شمالًا، وعلى طول نهر السوباط من ناحية اوبانغو غربًا إلى بونغلي شرقًا. إنّ سكان شولو المنحدرين من هذه المناطق هم الآن، إمّا في مركز حماية المدنيين التابع للبعثة الأمميّة في ملكال، أو في معسكرات اللاجئين في ولاية النّيل الأبيض في السّودان.

كانت فكرة انشاء 32 ولاية، هي محاولةً لإعادة هندسة السياسة الاستعمارية للتطور المنفصل وغير المتكافئ للجماعات ألّتي ذكرتُ، بأنّها حققت منذ أزمنة سحيقة، توازنًا مستقرًا في علاقاتهم.
أُبعِدت منطقة بيبور الإدارية المستقلة عن ولاية جونقلي في عام 2014 بموجب اتفاق سلام أُبرِمَ بين حكومة جمهورية جنوب السودان ومتمردي كتيبة كوبرا، لحل النّزاعات القائمة على الموارد، ومسألة نهب الماشية، وجائحة اختطاف الأطفال بين المورلي، والدينكا، والنوير. لم يتم تشييد جدرانًا لعزل المجتمعات عن بعضها بعضًا، على النقيض، فقد تصاعدت الصراعات بضرواةٍ، وامتدت حتّى بلغت مناطق سوري وجي وتوبوسا، بينما ظلّت النخبة السياسية والعسكرية المحلية تتنعّم بالسلطة وفوائدها. بثقةٍ، أعلن شخصًا ما بأنّ الغرض من انشاء إدارية بيبور المستقلة هو حماية الأقليات.
لا يمكن أن ينطلِ هذا القرار، على النّاس، بخُدعةٍ كبيرة وتضليل كثير. فثمّت العديد من المجتمعات الإثنية الصغيرة ألّتي لا يمكن رؤيتها في المقاطعات ألّتي تتعايش فيها مع مجتمعات إثنية أكبر نسبيًا، على سبيل المثال؛ توجد كوبا ألّتي تتعايش مع نوير مايوت، وتينيت مع أوتوهو في توريت، وسوري مع مورلي في بيبور، ومجموعات صغيرة في مقاطعات واو وراجا. رغم ذلك، لم تُحظى هذه الأقليات بحمايةٍ أو محافظة سوسيوثقافية في منطقةٍ إدارية مستقلّة بها. في رأي، ارتبط تأسيس إدارية منطقة بيبورالمستقلّة بظهور الذّهب ومعادن أخرى في هضبة بوما، مما يوحي بأنّ هناك من يضع نفسه، استراتيجيًا، في سياق تطوير واستغلال تلك الودائع.

في مذكرةٍ يُفترض إنّها أورِّخَت في 04/07/2020 موجهةً إلى الرئيس سلفا كير، قال القسّ المبجّل، جشوا داو إنّ “الترتيب الأمثل والأكثر ملاءمة هو منح مملكة شولو، منطقة إدارية أو ولاية، اعترافًا بوجودها المستقل منذ الحقبة الاستعمارية حيث كان حدود عام 1956″. بالطبع، هذه خطة تهبط من السماء! الشولو لم ولن يُطالِبوا قطّ، بمنطقةٍ إدارية تعزلهم عن جيرانهم الدينكا. في الواقع، إنّ ما يقدّره الشلو في الوقت الحالي، بعد هذا الإجلاء ألّذي تمّ على أيدي عملاء الدّولة، هو منحهم فرصة العودة إلى بيوت وأراضي أجدادهم.
في الواقع، وعطفًا إلى الموضوع ألّذي تم تداوله في عام 1983 أثناء اجتماعين عقدهما جنوبيين في مدينة كوستي، والحديث حول ما كان يحدث آنذاك، مما دفع بطرح سؤالٍ عمّا إذا كانت هناك حكومةً في الخرطوم، اعتاد شعب شولو على نظامِ حكمٍ محلي خاص بهم، لذا فإنّهم لا يضعون القانون في أيديهم ويطبقونه، بل ينتظرون تدخل السُلطات المخوّلة لها أمر القانون لحل مسألةٍ ما. هذا الشّعب، ما زال في انتظارٍ لمعرفة السبب الذي جعل أوبانغو والمناطق المجاورة، جزءً من ولاية جونقلي. القسّ المبجّل جشوا داو، هو أحد المهندسين ألّذي جعل دينكا بادانغ تُطالب بأرض شولو في شرق نهر النيل منذ عام 1980، وتأتي مذكرته الموجّه للرئيس في هذا السّياق. إنّه يكتب بإيجازٍ:”ومع ذلك، فمن المقبول أن يحقّ لأي شلكاويّ؛ فرد أو عائلة هاجروا واستقروا كمواطنين في الجزء الشرقي من النّيل مثل الرنك، ملوط، ملكال، عطار، يحقّ لهم البقاء والاستمتاع بحياتهم الاجتماعية، وأيضًا الحقوق والامتيازات السياسية المتساوية مثل كل المواطنين الآخرين في المنطقة. حقوق لجميع المواطنين، ينظمها ويضمنها القانون”.

بقراءتها حرفيًا، نجد إنّ مذكرة القسّ جشوا إلى الرّئيس كير، تبدو كتعبيرٍ عن مجد زهوق أو شيء يخلو من أي مضمون. إلّا أنّه، بالنّظر إلى السّياق الآني للتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والسّياسي لجنوب السودان، والنّهج ألّذي ينخرط بها الرأسمالي الطفيلي بعمقٍ في عملية رهن موارد الدّولة، نجد إنّ المحتوى الشّرير الخفي لإنشاء منطقة إدارية مستقلة، مطمر في التكهنات حول الأرض باعتبار إمكانية استخدامها في تربية الماشية، والزراعة الآلية التجارية. خطة جشوا، القائلة بطرد شولو من أراضي أجدادهم في الضفة الشرقية لنهر النّيل، لا تأتي في سياق الانفجار السّكاني لدينكا بادانغ، بل تطهير هذه الأرض وأراضي الدينكا المجاورة، لصالح بعض المستثمرين العرب والشرق أوسطيين لاستخدامها في الإنتاج الزراعي التجاري.
إنّ تأسيس مناطق إدارية مستقلة ، مهما يكن المغزى من وراءه، هو صفحةٌ مستعارة مِن السّياسة الاستعمارية القائلة بـ “فرّق تسُد”، بغرض الاستيلاء والسّيطرة على مواردها الطبيعية، خاصةً الأرض؛ أهم وسائل الإنتاج. الهدف الرئيس من هذا المخطّط، هو الحفاظ على النّظام في السّلطة، لتنهمك عناصره في استخراج ونهب الموارد الطبيعية، بينما يتوهّم مواطنو هذه الإدارايات بأنّهم يمارسون السّلطة. أُنشئت إدارية إدارية منطقة بيبور المستقلة في عام 2014، ومع ذلك، لم تكن المنطقة بأفضلِ حالٍ من مناطق أخرى في جنوب السّودان من حيث التنمية الاجتماعية والاقتصادية أو تحسين الأمن وسيادة القانون. الحالة المادية لسكان مناطق مورلي، أنيوا، وسوري، لم تتبدّل أو تتحسن. فقط، شاهدت المنطقة تبدل القادة باستمرار.

هناك أهداف أخرى مرتبطة بالتردد والممانعة في التنفيذ الكامل للإتفاق المنشّط لحل النّزاع في جنوب السّودان، مما يعني أنّ الوضع الراهن سيكون مؤقتًا لحدوث انفجار عنيف آخر، لأنّ النظام، إلى حدٍ ما، استوعب المعارضة، شاملةً الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة. من أجل الحفاظ على عدم الاستقرار الدائم في النظام، تصبح فكرة إنشاء مناطق إدراية مستقّلة، مقبولة، كوسيلة لإثارة شهيّة النُخب المُنحدرة من مجتمعاتٍ إثنية صغيرة، للسلطة. كان ذلك هو جوهر مذكرة القسّ المبجّل جشوا داو الموجهة لرئيس الجمهورية، ومن المحتمل أن تشهد الفترة القادمة المزيد من المذكرات. وطالما ظلّ الوضع منذ أن كان عدد الولايات 32، حيث لم تدفع الحكومة القومية إلّا الرواتب فقط، فإنّ انتشار المناطق الإدارية المستقلة، سيترجم إلى عبء اقتصادي كبير على كاهل الشعب. عاجلًا، سنقترب ممّا يسميها هوبز، حالة الطبيعة: حيث تصير فيها حياة المواطنين فقيرة، مستوحدة ، موغلة في الجهل، بهيمية وحشية، وقصيرة الأجل.
إنّ إنشاء مناطق إدارية مستقلة، هو مخطط خطير من صميم عمل مجلس كبار اعيان الجينق ورئيسها المشارك القسّ المبجّل جشوا داو، عملاء التغلغل الرأسمالي الطفيلي في جنوب السودان. تكمن سلبية هذا المخطّط، في إنّه يُفرّق النّاس بدلًا من دمجهم؛ يقسّمنا بدلًا من توحيد وتوطيد علاقتنا الأخوية في سياق بناء الأمة. يتعارض هذا المخطط مع شعبنا لأنّه يجعله يعاني النّزوح ويتكبّد مشاق الحياة، تاركًا أراضيه لمستثمرين محتملين. حقًا، إنّه مشروع مُعادٍ للشعب ينبغي رفضه بالكامل.

جوبا، 20 يوليو 2020

Translate »