
محادثات “تومايني” للسلام في نيروبي: فرصة حقيقية أم إعادة تدوير للأزمة في جنوب السودان؟
واجومانيوز
بقلم: محمود اكوت
مقدمة: هل نقترب من حل حقيقي أم نكرر أخطاء الماضي؟
في خضم الأزمات السياسية المتكررة التي عصفت بجنوب السودان منذ استقلاله عام 2011، برزت مبادرات سلام عديدة، بعضها أُنجز على الورق فقط دون أن يجد طريقه للتنفيذ. اليوم، نجد أنفسنا أمام محادثات “تومايني” للسلام في نيروبي، والتي تشارك فيها الحكومة والجماعات المعارضة غير الموقعة على اتفاقية السلام لعام 2018، بما في ذلك التحالف الشعبي المتحد (UPA) بقيادة باقان أموم.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل هذه المحادثات تمثل فرصة حقيقية لإنهاء الصراع، أم أنها مجرد محاولة جديدة لإعادة تدوير الأزمة ضمن لعبة المصالح السياسية؟ من خلال تحليل عميق للأحداث، أرى أن هذه المفاوضات تحمل في طياتها فرصًا وتحديات، لكنها في الوقت ذاته تعكس هشاشة المشهد السياسي في جنوب السودان، حيث لا تزال الأطراف المتفاوضة عالقة بين إرث الماضي ومتطلبات المستقبل.
السياق السياسي: لماذا نحن هنا مرة أخرى؟
فشل اتفاقية السلام المنشطة لعام 2018
لم تكن اتفاقية السلام لعام 2018 أكثر من هدنة مؤقتة بين القوى المتصارعة، حيث استمرت الانقسامات داخل الحكومة، ولم يتم تنفيذ معظم البنود المتعلقة بالإصلاحات السياسية والأمنية. ظل سلفا كير ميارديت وحزبه الحاكم مسيطرين على الدولة، بينما بقيت المعارضة، وخاصة رياك مشار، ضعيفة ومُهمَّشة ضمن تركيبة الحكومة الانتقالية.
في هذا السياق، ظهرت فصائل معارضة جديدة رفضت الاتفاقية، ومن بينها التحالف الشعبي المتحد (UPA) بقيادة باقان أموم، والتي اعتبرت أن اتفاق 2018 لم يعالج جذور الأزمة، بل عزز سلطة نخبة معينة على حساب بقية القوى السياسية والمجتمع المدني.
لماذا محادثات “تومايني”؟
تم إطلاق محادثات “تومايني” كجزء من الجهود الإقليمية والدولية لإنهاء الصراع مع الجماعات غير الموقعة على اتفاق 2018، وإيجاد آلية أكثر شمولية تضمن إدماج هذه الفصائل في العملية السياسية. وتشارك في هذه المحادثات:
الحكومة الانتقالية في جنوب السودان، التي ترى في الحوار وسيلة لاحتواء المعارضة وتقليل التهديدات الأمنية.
التحالف الشعبي المتحد (UPA) بقيادة باقان أموم، الذي يسعى للحصول على دور سياسي قوي ضمن أي ترتيبات مستقبلية.
فصائل أخرى غير موقعة على الاتفاق، مثل جبهة الخلاص الوطني بقيادة توماس شريلو، والتي لا تزال تشكك في نوايا الحكومة.
لكن هل هذه المحادثات تسير في الاتجاه الصحيح؟
التحديات والرهانات: لماذا قد تفشل المحادثات؟
1. الخلافات العميقة بين الحكومة والمعارضة
رغم الاتفاق على عدة بروتوكولات خلال المحادثات، إلا أن الحكومة لا تزال مترددة في قبول إصلاحات جذرية قد تؤدي إلى تقليص نفوذها.
المعارضة، وخاصة التحالف الشعبي المتحد، تطالب بإعادة هيكلة الدولة بالكامل، وإدخال تغييرات جوهرية على المؤسسات الأمنية والسياسية.
الحكومة، من جانبها، تريد إدماج بعض شخصيات المعارضة دون تقديم تنازلات كبيرة، مما يجعل المفاوضات أشبه بـ”صفقة سياسية” أكثر منها عملية إصلاح حقيقية.
2. هشاشة التحالف الشعبي المتحد
رغم أن باقان أموم يقدم نفسه كقائد لحركة سياسية جديدة، إلا أن تحالفه لا يزال يواجه تحديات داخلية:
هل التحالف لديه دعم شعبي حقيقي؟ أم أنه مجرد تجمع للنخب السياسية السابقة التي فقدت مواقعها في السلطة؟
كيف سيتعامل مع الفصائل المسلحة الأخرى؟، خاصة أن بعض الجماعات المتمردة لا تزال ترفض أي تسوية سياسية مع حكومة جوبا.
3. غموض موقف المجتمع الدولي والإقليمي
إيغاد (IGAD)، المشرفة على اتفاق 2018، لا تزال ترى أن الاتفاقية المنشطة هي الإطار الأساسي لحل الأزمة، مما يجعل أي مبادرة جديدة مثل “تومايني” محط تساؤل.
أوغندا والسودان، الدولتان الأكثر تأثيرًا في جنوب السودان، لديهما مصالح متشابكة وقد لا ترغبان في تغيير الوضع القائم.
المجتمع الدولي يراقب، لكنه لم يقدم دعمًا حقيقيًا لضمان تنفيذ مخرجات المحادثات، وهو نفس السيناريو الذي أدى إلى ضعف تنفيذ اتفاق 2018.
4. المخاوف من خلق “هياكل موازية”
وفقًا لوثيقة حكومية مسربة، هناك مخاوف من أن مبادرة “تومايني” قد تؤدي إلى إنشاء هياكل سياسية بديلة تتعارض مع المؤسسات الحالية.
هذا يطرح تساؤلًا مهمًا: هل المحادثات تهدف حقًا إلى تعزيز السلام، أم أنها ستفتح الباب أمام صراع جديد بين المؤسسات الحالية والهياكل التي قد تنبثق عن هذه المفاوضات؟
السيناريوهات المحتملة لمستقبل المحادثات:
1. نجاح المحادثات وتوقيع اتفاق جديد
في هذا السيناريو، قد تتوصل الحكومة والفصائل المعارضة إلى اتفاق يُدخل تعديلات على اتفاق 2018، ويضمن مشاركة أوسع للمعارضة في الحكومة. لكنه يتطلب التزامًا حقيقيًا من الأطراف الدولية والإقليمية، وهو أمر غير مضمون.
2. استمرار الجمود السياسي
قد لا تسفر المحادثات عن نتائج ملموسة، مما يؤدي إلى بقاء الوضع كما هو عليه، مع استمرار المعارضة في أنشطتها السياسية والعسكرية دون حل جذري للأزمة.
3. تصعيد الصراع وانهيار المحادثات
إذا فشلت المحادثات تمامًا، فقد تلجأ بعض الفصائل المعارضة إلى الخيار العسكري، مما قد يُعيد البلاد إلى دوامة الحرب الأهلية.
خاتمة: هل “تومايني” هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ جنوب السودان؟
كمحلل سياسي، أرى أن محادثات “تومايني” تمثل إحدى المحاولات العديدة لإنهاء الصراع، لكنها ليست بالضرورة الفرصة الأخيرة أو الحاسمة. المشكلة الأساسية في جنوب السودان ليست مجرد إجراء محادثات سلام، بل غياب الإرادة السياسية الحقيقية لتنفيذ الاتفاقات السابقة.
إذا لم تتغير طريقة إدارة الدولة، وإذا لم يتم تقديم حلول جذرية بدلاً من مجرد إعادة توزيع السلطة بين نفس النخب، فإن أي اتفاق جديد سيكون مجرد حلقة أخرى في مسلسل الأزمات المستمرة.
البلاد بحاجة إلى إصلاح حقيقي، وليس مجرد مفاوضات لتوزيع المناصب. فإذا لم يتم معالجة هذه الإشكاليات، فحتى لو نجحت محادثات “تومايني”، فإننا سنجد أنفسنا بعد سنوات أمام مبادرة سلام جديدة تحمل اسمًا آخر، لكن بنفس المشاكل القديمة.