صمويل بيتر أوياي: بين سايكولوجية التواطؤ وصوت المقاومة لوزير الخارجية رمضان
واجومانيوز
بقلم: عمار نجم الدين
إذا كنت تتابع التطورات بين السودان وجنوب السودان، فلا يمكنك تجاهل الخطاب الذي ألقاه وزير خارجية جنوب السودان، رمضان محمد عبد الله، في مجلس الأمن. خطاب رمضان لم يكن مجرد كلمات؛ كان قنبلة دبلوماسية هزت القاعة وجعلت الجميع يلتفت إلى قضية ظل العالم يتجاهلها: الجرائم الممنهجة التي يتعرض لها مواطنو جنوب السودان في السودان.
لكن بدلًا من مواجهة الحقيقة، اختار البعض الهجوم على الوزير، مثل الكاتب صمويل بيتر أوياي، الذي نشر مقالًا مليئًا بالتبريرات والانتقادات الموجهة للوزير، بحجة أنه “خرج عن السياق” في منصة دولية. وهنا تكمن المفارقة: ما هو “السياق” الحقيقي عندما تتحدث عن أرواح تُزهق وعن جرائم تصل إلى مستوى الإبادة الجماعية؟
السودان وجنوب السودان ليسا مجرد دولتين؛ هما قصتان متشابكتان من الألم والتاريخ. منذ عقود، كان الجنوب مسرحًا للصراعات والحروب، حيث مارست النخبة المركزية السودانية الهيمنة المؤسسية، وأحكمت قبضتها على الجنوب عبر سياسات التهميش الاقتصادي والثقافي. وما يجري اليوم ليس سوى امتداد لهذا الماضي، حيث لا تزال النخب المركزية تنظر إلى الجنوب باعتباره مجرد “تابع” لها، وهو ما ينعكس في كل ممارساتها السياسية والعسكرية.
رمضان محمد عبد الله يدرك هذا التاريخ جيدًا. بصفته أحد رموز النضال الطلابي ضد سياسات المركز، يعرف تمامًا أن الصمت ليس خيارًا. وبينما اختار الكاتب أوياي طريق التبرير والتقليل من فظاعة الجرائم، اختار رمضان طريق الحقيقة، مهما كان الثمن.
الكاتب أوياي ينتقد وزير الخارجية لحديثه عن جرائم ضد مواطني جنوب السودان داخل السودان، بحجة أن ذلك “لم يكن ضمن جدول أعمال الاجتماع”. لكن هذه الحجة تكشف عن التواطؤ البنيوي في طريقة التفكير: كيف يمكن فصل مكافحة الإرهاب، وهو موضوع الاجتماع، عن الجرائم ضد الإنسانية؟ عندما يُقتل مواطنون أبرياء في كنائسهم بناءً على تمييز عرقي، ألا يعد هذا إرهابًا في أوضح صوره؟
العدالة لا تنتظر البروتوكولات. وإذا كانت هناك رسالة واحدة واضحة من رمضان في ذلك الاجتماع، فهي أن الجرائم ضد الإنسانية يجب أن تواجه فورًا، دون تردد أو حسابات سياسية.
في مقاله، حاول الكاتب أوياي تصوير رمضان كضحية لضغوط “النشطاء” على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن هؤلاء النشطاء لا يمثلون سوى ظاهرة شعبوية عابرة. لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. النشاط السياسي الشعبي كان دائمًا محركًا للتغيير الحقيقي.
رمضان لم يتحرك بناءً على ضغوط النشطاء فقط، بل بناءً على إرادة تاريخية لشعبه تطالب بالعدالة. في المقابل، الكاتب أوياي يمثل نموذجًا لمن يحاولون البقاء في منطقة الراحة، رافعين راية “الاعتدال”، التي هي في الحقيقة تواطؤ مع الظلم.
جنوب السودان يمثل قصة كفاح من أجل الكرامة الوطنية. لكنه أيضًا يمثل تهديدًا للنظام القديم الذي حكم العلاقات الإقليمية. السودان، تمامًا كحال دول أخرى في المنطقة، لا يزال يتعامل مع جنوب السودان بعقلية الهيمنة الإقليمية. لكن تصريحات رمضان في مجلس الأمن كانت رسالة واضحة: الجنوب ليس مجرد تابع، بل دولة ذات سيادة، ستدافع عن مواطنيها مهما كانت التكلفة.
استهداف المواطنين الجنوبيين داخل الكنائس بولاية الجزيرة، وفقًا للتقارير، يعد انتهاكًا واضحًا للمادة السابعة من ميثاق روما. هذه الجرائم لم تكن أحداثًا فردية بل جزءًا من سياسات ممنهجة تستهدف الجنوبيين والأفارقة بناءً على أسس عرقية.
وفقًا لمبدأ الاختصاص العالمي، يحق للمجتمع الدولي التدخل إذا فشلت الدول في ضمان العدالة. حديث وزير الخارجية الجنوب سوداني أمام مجلس الأمن كان تطبيقًا لهذا المبدأ، حيث كشف عن فشل الدولة السودانية في تحقيق العدالة الانتقالية.
تصريحات رمضان ليست تصعيدًا غير محسوب، بل هي جزء من رؤية تستند إلى العدالة التصالحية، حيث يتم الاعتراف بجرائم الماضي كخطوة أولى نحو المصالحة.
كاتب المقال، الذي يحاول تخفيف حدة الجرائم ضد الجنوبيين، يعكس عقلية الاستسلام الثقافي. هذه العقلية، كما وصفها عالم النفس فرانز فانون، تنبع من الاستعمار الداخلي، حيث يتم تبرير ظلم السلطة المركزية للحصول على رضاها.
في المقابل، مواقف رمضان عبد الله تعكس الوكالة السياسية، حيث يعمل كصوت للمهمشين بدلاً من أن يكون أداة لتعزيز الإيديولوجيا المهيمنة.
ما حدث في اجتماع مجلس الأمن يعكس حاجة جنوب السودان لتعزيز مكانته الدبلوماسية كدولة ذات سيادة.
على جوبا أن تدرك أن الديناميكيات الاستعمارية الجديدة لا تزال تشكل علاقتها مع الخرطوم. السودان، تمامًا كحال مصر مع السودان، يتعامل مع الجنوب كفناء خلفي يُخضع لمصالحه الخاصة.
في مواجهة مقال يعكس محاولة تجميل الجرائم وقلب الحقائق، يظهر رمضان محمد عبد الله كصوت مقاوم. خطابه في مجلس الأمن يمثل رفضًا قاطعًا لعقلية التواطؤ البنيوي التي يسعى كاتب المقال لترويجها.
وكما يقول توماس فريدمان: “في كل أزمة فرصة لإعادة تعريف الذات.” هذه الأزمة بين السودان وجنوب السودان هي فرصة لجوبا لتعزيز مكانتها كدولة ذات سيادة، ولإظهار أن العدالة ليست مجرد خيار بل ضرورة.
رمضان محمد عبد الله هو صوت يمثل هذه الرؤية، بينما يظل منتقدوه، مثل الكاتب أوياي، عالقين في مستنقع الماضي، حيث تُفضل المصالح المؤقتة على المبادئ الدائمة.
إذا أردنا فهم هذا الصراع بشكل أعمق، علينا أن نجيب على هذا السؤال: هل نريد عالماً تُقاس فيه قيمة الإنسان بالاتفاقات الدبلوماسية؟ أم عالماً تُقاس فيه العدالة بقدرتها على مواجهة أي ظلم، مهما كانت الظروف؟ رمضان اختار الطريق الثاني، وهو الطريق الأصعب، لكنه الطريق الصحيح.