وكتب د.عبدالله ميرغني ..المشروع الوطنى، الفريضة الغائبة فى السودان (٢

واجومانيوز

بقلم: د.عبدالله ميرغني  

المدخل :

مدخلنا لهذا الجزء من المقال هو تذكير فقط ، إن الفريضة تفيد معنى التقدير والتأكيد ، التقدير من جهة الحدود والمعالم ، فالشيء المفروض هو الشيء الذى حدوده ومعالمه واضحة وبينة ، والتأكيد من جهة التقيد الإلزام ، فالشيء المفروض إنما يتعلق بأمر واضح وبين يفترض أو يجب فيه التقيد والإلزام وبالتالى فهو نقيض الغياب والتغيب ، ولاتغيب الفريضة ولا تكون غائبة الا بسبب خلل وهذا هو واقع الحال في السودان .

حركة المجتمع والقيم العليا للمشروع الوطنى:

حتى يتم تجاوز الكثير من تعقيدات انعدام الإرادة السياسية وانتكاسات مغريات السلطة و لعبة الكراسى والتكتيكات المرحلية التى كانت إحدى المصدات الرئيسية لصناعة اى توافق وطنى فى الماضى ، عليه فأن هناك حاجة إلى أن تكون عملية المشروع الوطنى المؤدية للتغيير عبارة عن ( حركة اجتماعية واسعة) ، حيث أن الإطار السياسى يفرض سقوفا وآليات عمل محدودة تتقاصر عن مواكبة إحتياجات المرحلة الراهنة ذات الأبعاد الاجتماعية, الثقافية , الاقتصادية والسياسية ، حيث أن الحركة الاجتماعية يمكن أن يكون لديها تصور مجرد للمستقبل أكثر عملية وتفاؤلا , وهذا التصور بإمكانه أن يصنع المشروع الوطنى المرجو عبر الوصول إلى قيم عليا متفق عليها تتجاوز المعوقات بكل أشكالها الثقافية والسياسية والاجتماعية , وهى قيم الإنسانية التى يكون الانتماء لها هو أساس الانتماء الوطنى نفسه, وعلى اساسها يكون الإنسان هو محور بناء الدولة والذى هو المواطن المفترض فى الدولة وأيضا الحاكم المحتمل كجزء من شعب متساوى فى الحقوق والواجبات على أسس الإنسانية المتساوية .

إنّ السودانيين بكل أطرافهم بما فى ذلك أشد المتطرفين ما زالو قادرين على النقاش والحوار معا ، و تقدم منصات التواصل الاجتماعى الدليل على ذلك مع فرضية أن الشعب السودانى مسالم ، وربما هذا الافتراض صحيح إلى قدر ما و صحيح ، فالشعب السودانى بإثنياته وثقافاته المتنوعة لا زال إلى الان قادراً على الحوار والنقاش , لكن هذا الوضع لن يستمر طويلا فى ظل هذه الحرب الدائرة الآن بالبلاد و التى أسهمت بصورة كبيرة في نشر خطاب الكراهية وزراعة الفتن القبلية والعنصرية وتأثيراتها الاقتصادية والسياسية و توسيع دائرة المؤثرات الخارجية .

عليه فإن الدولة التى يمكن أن تقوم على المشروع الوطنى الكامل يجب أن يتركز مشروعها بشكل أساسي على بناء مؤسسات تقوم على المساواة ، وتسمح للناس بالتعبير الحر المتساوي عن أنفسهم ، إن هذه المساواة المؤسسة على الحياة الكريمة تستحق أن تكون الارضية الجامعة للحلم بالمشروع الوطنى القادر على جمع كل السودانيين فى شكل كتلة تاريخية طوعية تصنع وطناً نختار جميعا الانتماء له لانه يحقق لكل فرد حلمه فى تحقيق ذاته مع احتفاظه بكل محددات هويته .

إن التواضع على حقيقة أن الدولة التى عجزت منذ الاستقلال أن تحقق مطلوبات دولة الوحدة الوطنية والمؤسسات والدستور يقود إلى إمكانية قيام دولة أخرى تنشأ بتوافق مبدئى على أن الحرية والمساواة والكرامة و الديمقراطية والقانون هى قيم عليا لهذه الدولة , هذا التوافق هو أول متر مربع فى ارضية المشروع الوطنى الذى قد ينجح فعليا عبر خطوات عملية فى إحداث قطيعة مع تاريخ مرير من الأزمات السياسية والأمنية , لازال هناك أمل فى تجاوزه حتى هذه اللحظة , لكن إمكانيات هذه القدرة على التجاوز بشكلها الإيجابي تتضاءل مع كل لحظة تمر دون عمل جاد نحو صناعة وطن للجميع .

هذا التوافق الناتج عن الحوار الجامع والشامل بمسمياته المختلفة هو الذى يشكل المشروعية والحجية للمشروع الوطنى ، والسياج المنيع لضرب وحدة البلاد وتفتته واستكمال استقلاله وضمان حريته وديمقراطيته ، ويتشكل منها (المبادئ فوق الدستورية ) أو (المبادئ الدستورية العليا ) أو (القواعد المؤسِّسة للدستور ) بوصفها قواعد تمس قضايا كبرى ومصيرية، وذات أبعاد استثنائية في الدولة، وتتعلق بحقوق ومصالح ومستقبل كل فئات الشعب دون استثناء، حصانةً استثنائية تجاه التغيير والتعديل، تفوق الحصانة التي تُعطى لغيرها من قواعد الدستور، بحيث يكون تعديلها أو تغييرها أو إيقافها، نتيجة تعديل الدستور أو تغييره أو تعطيله، أمرًا بالغ الصعوبة على السلطات الحاكمة.

مهددات المشروع الوطنى :

 لا يتوقع فى ظل هذه الاجواء السياسية والأمنية المضطربة وتنازع المشروعات السياسية والمبادرات أن تسمح القوى المتربصة بعقد هذا الحوار الوطنى الجاد بالنفاذ إلى خلاصات فكرية تشكل المشروع الوطنى الذى يمكن أن يشكل خريطة لمعالجات أزمات السودان منذ الاستقلال ، عليه يمكن الإشارة إلى اهم هذه المهددات :

* مهددات من قبل تحالف أصحاب المصالح و القوى ضد التغيير و مجموعات الفساد.

* مخاطر الصراع الدولى و الإقليمي و التدخلات التى تربك المسار الوطني الديمقراطي والتنموي. 

* مهددات و مخاطر تتعلق بنوعية ودرجة الالتزام الداخلي بالمشروع الوطني من القوى السياسية والمدنية و الاجتماعية .

* الرأى العام و استعداده للعمل على إنجاح المشروع الوطني بالمشاركة الفاعلة وحمايته من كل محاولات التخريب. 

* الإعلام ودوره في نشر الفكرة والمشروع والوعي العام به، أو في عرقلته بالتشويش والافتراء عليه .

بالرغم من ذلك كله فإنه يمكن التغلب على هذه المهددات بفتح حوار وطني كبير ومتنوع المداخل رسمى وشعبي إجتماعي للاتفاق على مشترك وطني يشمل أمهات القضايا التى اشرنا إليها وغيرها ، تكوين كتلة تاريخية ديمقراطية من أجل إنجاز المشروع الوطني ، إعداد منظومة إعلامية فعالة للتعريف بالمشروع الوطني وتكوين رأي عام حليف له والرد السريع والمركّز على كل محاولات التشكيك والتّشويه ، نشر أدبيات حول مختلف قضايا المشروع ومحاوره ، تقوية المجتمع المدني بالمشروع وأهميته ودعوته إلى جعله محوراً ومركزياً من محاور نشاطه ، تقوية كتلة المواجهة مع الفساد ومحاصرته ، إعداد خطة قانونية شاملة لحماية المشروع في الداخل والخارج من كل تشويش أو تشويه.

وأعتقد أنه لابد من ابتدار حلقات وجلسات للحوار والنقاش على مستويات مختلفة ،شعبية وأكاديمية وحزبية وحكومية لمدارسة مايمكن أن تعتبر مبادئ و موضوعات المشروع الوطنى حتى يصل الجميع إلى ما يكون توافقاً وإجماعاً ، من جهة اخرى لابد أن تتبنى الحكومة حلقات النقاش هذه مع توفير أجواء الحرية دون التأثير على مجريات الحوار .

 الخلاصة :

يمكن القول إن المشروع الوطني فلسفة ورؤية في الحرية والتقدم والقوة والتنمية والعدالة لصالح الدولة والمجتمع، واستراتيجية عملية ذات طبيعة استشرافية لتجسيد تلك الرؤية والطموح و يتحول كل هذا إلى برنامج عمل حكومي ومدني متكامل ومنسجم لا يخضع للتقلبات السياسية ، دون كبت الميول الطبيعية نحو النقد والتنافس المشروع على خدمة الصالح العام ، أي أن ذلك المشروع لا يكون ذريعة للاستبداد بالرأي وتطبيق منهج شمولي بدعوى الحفاظ على المصلحة العامة، بل يتم تحقيقه في مناخ ديمقراطي مع تحصين هذه الديمقراطية من الفساد بكل الوسائل الدستورية والقانونية ، فيكون المشروع الوطني بالضرورة مشروع ديمقراطي غاية ومنهجاً.

 

Translate »