قراءة فى كتاب جنوب السودان … قضايا فى السياسة الخارجية.. للكاتب تيكواج فيتر (٣-
واجومانيوز
بقلم: د عبدالله ميرغني
العلاقات السودانية الجنوبسودانية
فى هذا الجزء الثالث من هذه القراءة والذى خصصته للعلاقات بين السودان وجنوب السودان ، إبتدر الكاتب هذا الفصل بقوله أن العلاقات بين جنوب السودان و السودان لها أهمية خاصة ، برغم المرارات
التاريخية التى يعززها الجوار الجغرافى فهناك ضرورة لإقامة علاقات بين الدولتين ، مؤكدا أن جميع العوامل متوفرة لإقامة علاقات تعاونية تبادلية على كآفة المستويات ، لذلك جاءت محددات العلاقة بين الدولتين شاملة المحددات التاريخية والجغرافية والسياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية ، وهو مايتجاوز محددات الدول الاخرى ، بصورة تدعم مقدمة الكاتب فى أن كثرة المحددات بين الدولتين مؤشر لضرورة العلاقة وحتميتها ، وتناول نماذجاً للتعاون السابق بينهما منها ضمان ورعاية إتفاقيات السلام ،إنتاج وتصدير النفط ، التبادل التجارى ، مجهودات حل الخلافات الحدودية بينهما ، التعاون الامنى .
مما لا شك فيه أن تطورات الأحداث فى السودان عقب حرب أبريل 2023م عرقل جهود تعزيز التعاون بين الدولتين ، فضلاً عن التداعيات التى أفرزتها على جنوب السودان في النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية ، وقد كشفت هذه الحرب عن وعى تمتعت به قيادة الدولة في جنوب السودان فى مواقفها الإنسانية تجاه المواطنين السودانيين الذين لجوء إليها وقدمت لهم تسهيلات الإقامة والانتقال والتملك و بعض المواقف الإيجابية تجاه السودان فى منظمتى الايغاد والإتحاد الأفريقي إلى جانب بعض التفاهمات الثنائية فى تخفيف وطأة الحرب على المواطن .
إن السياسة الخارجية للبلدين تجاه بعضهما بعضا تقوم على عدد من الفرضيات والمحددات منها :
* سجل دعم الحركات المعارضة للبلدين تجاوزه الزمن ، وقد كان هذا التوجه إحدى أدوات السياسة الخارجية الفاشلة فى تحقيق الأمن والاستقرار للبلدين .
* الأوضاع السياسية و الاقتصادية الداخلية غير المستقرة فى جنوب السودان تؤثر في تنفيذ أهم بند من بنود إتفاق السلام المنشط وهى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
* إستمرار الحرب يؤثر على ضخ النفط الجنوبى عبر الأنابيب السودانية الأمر الذي يخنق اقتصاد الدولة الجنوبية مما يدفعها للبحث عن بدائل اقتصادية فى غاية الصعوبة ، على ذلك النحو الذى كشفت عنه بعض الوثائق فى بيع النفط لإحدى الشركات الامارتية فى صفقة وصفت بأنها مجحفة وطويلة الأجل وفيها إضرار بالاقتصاد الجنوبى .
* مستقبل العلاقة بين الدولتين مرتبط بالتعاطي الإيجابى مع المستجدات فى الأوضاع الداخلية للبلدين وفق مصالحهما الحيوية بعيداً عن أجندات وكلاء الدعم السريع فى جنوب السودان ودول الإقليم .
* بالرغم من الظروف التى يمر بها السودان الا أن متابعة تنفيذ إتفاق السلام المنشط ضرورة تحتمها رعايته للإتفاق السلام .
* قوات الدعم السريع ليست مجموعة فكرية أو عقدية ، ولا تنظيم سياسى مدنى ، هى مليشيا إثنية و مرتزقة مسلحة مقاتلة تملك سجلاً حافلاً ضد الإنسانية وجرائم تصل حد الإبادة الجماعية ، أسستها الدولة فى لحظات من غيبوبة الفكر الاستراتيجى ، فهى لا تبنى دولة ولا تأسس حضارة ولا ديمقراطية وتدمر كل التوجهات المدنية للدولة .
إلى جانب ما تفضل به الكاتب حول أهمية العلاقة بين البلدين مستنداً فى ذلك إلى جملة من المحددات السياسية الداخلية و الخارجية ، نؤكد أنها علاقات إستراتيجية و حيوية ، وهو وصف لا يعبر عن حقيقة التشابك والتعقيد و تعدد المصالح المشتركة . منها هذا الجوار الجغرافى الأبدي الذى يعد الاطول بين دول الجوار . هناك محطات مهمة فى تاريخ العلاقات بين الدولتين تعبر عن كل المنحنيات والخطوط المستقيمة التى شابت العلاقة بينهما منذ 2011م حتى اليوم :
* غزو هجليج مغامرة لم تَحسب حكومة جنوب السودان عواقبها .
* دعم المعارضة المسلحة للبلدين أدوات فاشلة و تكتيكات لغياب البعد الاستراتيجى.
* إتفاقية التعاون المشترك إرادة سياسية عاقلة للبلدين .
* حرب 2013م فى جنوب السودان هزيمة وإنتكاسة لمشروع الدولة الوطنية أمام طموحات قادة الحركة الشعبية المؤسسين .
* إتفاقية السلام المنشطة عودة الوعى للخرطوم ، ونقطة تحول فى مسار العلاقات بين البلدين .
* إتفاق سلام جوبا جهد جنوبسودانى مقدر ، ومحاولات لعب دور إقليمي، فى ظل اضطراب سياسي فى السودان .
* تفجر الأوضاع فى السودان فى أبريل 2023م بداية كارثية لنهايات علاقة متوترة بين أطراف الفترة الانتقالية ، وتدافع إقليمي لتصفية حسابات قديمة مع الخرطوم .
الحديث عن السياسة الخارجية للدولتين لا يُقصد به فقط البنود التى صيغت بعناية فى دستور الدولتين و لا المحددات الخارجية والداخلية أو الوسائل والأهداف التى وضعها الخبراء في الدولتين ، و لكن إلى جانب ذلك يقصد به الممارسة الفعلية لهذه السياسة على ضؤ الاضطرابات السياسية والاقتصادية والأمنية التى تسيطر على الأوضاع الداخلية للبلدين وانعكاساتها على علاقاتهما الثنائية ومصالحهما الحيوية والاستراتيجية فضلًا عن تعاونهما والإقليمي والدولي .
يلخص الكاتب مستقبل العلاقة بين الدولتين فى إقامة علاقات تتسم بالطابع التعاونى وليس الصراعى ، الذى يهدد الأمن القومي للبلدين وذلك بإستغلال تراجع حدة الخلافات بين البلدين والتعاون الكبير بينهما فى تحقيق الإستقرار برعاية إتفاقيات السلام بينهما ، محذراً فى الوقت نفسه من أن إستمرار الحرب في السودان يهدد مصالحهما فى إنسياب ضخ النفط لما يمثله النفط في إقتصادات البلدين ، و تأثير الحرب فى زيادة الأنشطة الارهابية ، وجرائم الاقتصاد المنظمة وغيرها على الحدود ، وتعويق كل صور التعاون بينهما .
نستدرك على الكاتب إغفاله أدوات أخرى فى السياسة الخارجية ذات تأثير كبير فى صناعة وتنفيذ السياسات الخارجيه وتوجيه العلاقات الدولية بما تقدمه مراكز التفكير (Think Tanks) على مستوى العالم ، وهى مؤسسات تهتم بأبحاث السياسات العامة وتحليلها ، وتوفر المعلومات وتقدمها بطريقة مفهومة وموثوقة ، وتستقرئ المسارات المستقبلية المحتملة ، وبالتالى تقوم بتقديم النصح والمشورة لصانع القرار ، وتحتل الولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا وفرنسا المانيا الصدارة فى الإعتماد على مراكز الدراسات كأدوات إلى جانب الصين وبلجيكا ، وبعض المراكز فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية والأفريقية على درجات متفاوتة فى التأثير فى صناعة القرار الخارجى وتنفيذه ، وفى جنوب السودان برزت مراكز للتفكير والدراسات مثل مركز دايفرستى مركز إيبونى و المركزين لم يجدا العناية أو التوجيه الحكومى للإستفادة منهما فى إعداد الدراسات وتقديم الاستشارات فضلاً عن المضايقات الامنية لعدم الفهم الكافي لدور هذه المؤسسات فى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
كذلك من أدوات السياسة الخارجية أجهزة المخابرات وهى تقوم على حماية الأمن القومى وتعزيز مصالح الدول فى حالتى الأمن والسلم عبر توفير قاعدة من المعلومات الموثقة ، والتعميمات الاستراتيجية لصناع السياسات لاتخاذ قرارات عقلانية ورشيدة ، وفى مجال آخر رقابة التوجهات العدائية ومحاولة تفسير التطورات التى تحدث فى إقليمها الجغرافى والعالمى .
فى ختام قراءتى أعتقد أن الكاتب قد وفق فى تحديد ملامح السياسة الخارجية لدولة جنوب السودان من خلال توظيف الأهداف والمصالح والعلاقات المتبادلة مع دول الجوار الإقليمي أو المحيط الدولى ، بالرغم من غياب سياسة واضحة للدولة والاضطراب السياسي الذى يسود مؤسسات الدولة والحزب الحاكم ، وسيادة الحالة المزاجية للذين يديرون هذه الملفات سواء على مستوى رئاسة الجمهورية والقيادات العسكرية والامنية والمستشارين والمبعوثين الخاصين .
و لا أجد مناصا من القول أنه قد ألقى حجراً كبيرًا فى بركة السياسة الخارجية لدولة جنوب السودان ، وأتوقع أن تتسع دائرة البحث والتأليف فى هذا المجال بهذا التحريض والاستفزاز الذى مارسه تيكواج على الباحثين في هذه المخطوطة الجيدة من حيث الموضوع والفكرة و المواكبة ، واستخدامه للمفردة السهلة الواضحة غير المعقدة وتوظيفه لمناهج البحث العلمي فى الوصول إلى النتائج والخلاصات ، ورسم سيناريوهات مستقبل العلاقات الخارجية بين جنوب السودان والدول محل الدراسة ، وقد وُفق كذلك فى البعد بالكتاب عن المصطلحات العلمية الجافة مما يسهل قراءته للعامة وأهل الاختصاص العلمى والمهنى .
تم..