حالما تتجزأ الإنسانية وتُؤدّلَج.. سردية المجاعة في بلاد “الحرب المنسيّة”

واجومانيوز

بقلم: محمد أبكر موسى 

     كان السودانيون يناضلون بشجاعةٍ لافتة وصمود فريد وكفاح مستميت، لبناء سرديّة تاريخيّة جديدة تنقل البلاد – بتضافر قيم ومكتسبات ثورة ديسمبر (2018 – 2021) – إلى بناء دولة المواطنة الوطنيّة الديمقراطيّة تحتضن قيم الحرية وتحقق السلام والعدالة (الحُلم السودانيّ المنتظر)، حتى وقعت مأساةً عبثيّة جديدة – تُضاف إلى ذاكرة البلاد المتخمة بالحروب والنزاعات التي ظلت تتكاثر بإطراد ساخر – أدخلت البلاد في واحدةٍ من أسوأ (كل الحروب الأهلية السودانيّة السابقة وُصِفت بهكذا صفات، وبهذا المستوى، وهذه الحدة والتطرف) الكوارث الإنسانيّة في التاريخ الحديث، والتي من المحتمل أن تؤدي إلى أن تكون من أسوأ أزمات الجوع – بلد ما يزال يُلقب بسلة غذاء العالم – في العالم وسط مخاوف وتوقعات من احتمال تكرار مأساة “الإبادة الجماعيّة” التي عاشها الاقليم الغربي (إقليم دارفور) – وما يزال يقاسي إنسانه آثارها الكارثيّة جتى الآن – قبل أكثر من 20 عاماً.

     ولكن رغم تلك الصورة القاتمة التي أبدعت وسائل الإعلام وتقارير المنظمات والهيئات ذات الطابع الحقوقي والإنسانيّ والإغاثيّ، في تصويرها وتوصيفها بتكرار يكاد يصبح “مملاً”، تعامل العالم مع هذه المأساة بطريقةٍ – إلى حدٍ كبير – تجرديّة متعمدة وحياديّة ساذجة؛ بطريقةٍ وكأن ما يحدث في السودان مجرد “صراعٍ داخليّ متخلّف غير مهم”، بل وبشكلٍ يجبرنا أن نركض بقوة نحو ناصيّة السؤال لنطرح: أين تقع مأساة السودان ضمن جدول أولويات واهتمامات المجتمع الدوليّ؟، هل هناك إهمال بالفعل للمحنة السودانية عالمياً؟، لماذا نلاحظ ضعفاً وقلةً لافتة لدرجة التجاهل في تغطية وسائل الإعلام العالمية الحرب السودانيّة؟، لماذا لم يُغاث السودان حتى الآن؟، أين “الأمم المتحدة” ووكالاتها ذات الطابع الإنسانيّ والحقوقيّ في الأثناء؟، ماذا وجد السودانيون من التعاطف والتضامن وروح الإنسانيّة؟، ما مدى براءة سرديّة “المساعدات الإنسانيّة” عن الايديولوجيا واقتصاديات الحرب؟، ماذا تحمل مفردة “مجاعة” من محتوى وذاكرة؟، وماذا عن مفهوم “اقتصاد الفقراء” وكيف يُصنع ويُدار؟.

 

المجاعة كمادة إعلامية:

 لم تتعدَ الحرب شهرها الثالث، حتى ملأت سرديات الجوع والعطش والمرض والبؤس اسماع العالم عبر قنوات الاتصال المختلفة، وبطريقةٍ كأنها ظواهر جديدة – قبل الحرب كان واحد من بين ثلاثة أشخاص يعانون من سوء التغذية – ظهرت للتو في بيئة خصبة، وهي منذ زمن بعيد، جاذبة لتوالد مثل هذه الكوارث والأزمات. وقد كانت لسرديّة “المجاعة” والخطابيّة الايدولوجيّة التصقت بها، النصيب الأكبر من التكرار والترويج وصك المخاوف حولها لدرجة أن استحوذت مفردة “المجاعة” على عناوين الأخبار، وسيطرت على المشهد العموميّ للتداول المعلوماتي بين الناس. يتناقلون في مختلف حيواتهم، قصة معاناة إنسانيّة محبوكة بإيقان إعلامياً؛ فحواها أن موجة “جوع حاد” ستضرب السودان في أي لحظة، وستقضى على كثير من الأرواح التي هي مهددة بالموت أصلاً – تأثيراً – منذ الحرب الأهلية الأولى (1955 – 1972) والثانية (1972 – 2005) في الجنوب، والثالثة (2002 -2021) في غرب السودان.

     ومن حينها إلى أن اكملت الحرب عامها الأول، وسرديّة “شبح المجاعة” لم تغيب عن “لحظة” كل تغطية – مع قلتها وضعفها – إعلاميّة لأخبار البلاد. ومع ذلك لم نلاحظ أي حركة فاعلة من “المجتمع الدولي” للتدخل بأي شكل يكون، بل ظلت حبيسة مكاتبها وتستقبل أرقام الضحايا ومدى معاناتهم في صمت وسكون؛ يشاهد ما يحدث بتجرد وبرود في ظل تركيز تلك التغطية المحدودة على جانب كارثيّة المأساة  – على غرار محنة جنوب السودان عام 2017، ومجاعة الصومال الأخيرة عام 2011 على الأقل – ومن زواية عذاب الضحايا واستمرار ما يعايشونه من جحيم مستعير من البؤس والفقد والشدّة.

     ركزت تلك وسائل الإعلام التي اهتمت بالمحنة لأسباب ايديولوجيّة وأهداف سياسيّة تخصها في المقام الأول، وما يزال يتمحور تناولها، على هكذا سُوداوية الحدث؛ وكأنها وجدت في هذه القتامة وإنكساريّة الصورة وسلبية المفردة وظلامية العبارة، ضالتها المهنية؛ كأنها عثرت على كنزها المفقود؛ وجدت مادتها الدسمة للتناول والكسب على أساسها. وهذا الكلام ليس غريباً عليها (بالنسبة للإعلام السياسيّ والصحافة الصفراء خاصةً) اذا تتبعنا سيرورة الحروب والكوارث حديثاً في اليمن، وسوريا، وغزة، وأوكرانيا، وبعض المناطق المأزومة في إفريقيا. ظلت مركزة على ذلك فقط، دون أن تحاول كشف وتغطية الجانب الآخر للمشهد؛ صمود السودانيون وسط المحنة وامام الرصاص، حالات البطولة التي اظهروها في المقاومة، المبادرات الفريدة التي قاموا بها، حملات التضامن والتعاطف الإنساني، قوة وعمق صبرهم أمام قسوة الحياة المعيشية، ونزعتهم النضاليّة التي لم تراوح لحظة مختلف حيواتهم.

     وذلك يدلل على ما يمكن قوله، أن وسائل الإعلام (ليست جميعها طبعاً) أصبحت في العقود الأخيرة – وبشكلٍ صريح ومباشر – لاعباً رئيسيّاً في “لعبة” نسج الظواهر ومحاولة تثبيتها؛ مساهمة بصورةٍ كبيرة في خلق الأزمات والاستمرار في إعادة إنتاجها؛ تحوّلت لشريكاً أساسيّاً في الترويج للصورة السُوداء في حيوات البشر وبكثافةٍ صارخة، بل باتت تتغذى على ذلك، بشراهةٍ فاضحة. فالسرديات كالمجاعة، الوباء، الأزمة، المأساة، صارت مواداً دسمة للتناول الإعلامي الغربي(اليمينيّ وصحافة المال الأسود خاصةً) لدرجة ان أصبح وجوده “المدهش” مهنياً، يقوم على هذه السلبية – مع بقية العناصر والأطراف – في إنتاج الشرور والأحزان والدعاية لها.

     لماذا لم تبعث وسائل الإعلام العالمية مراسلين لها إلى السودان لمداومة تغطية احداث الحرب وتطوراتها التي لم تكف عن التحديث يومياً؟، لماذا لم نرى لقنوات مثل CNN، فرنسا 24، ART24 الروسيّة، BBC، نيويورك تايمز، وول ستريت، ذا إندبندنت، واشنطن بوست، ذا ليموند الفرنسية، حضوراً كبيراً بقدر كارثية الحرب؛ كأن أن ترسل “وفوداً متكاملة” لتغطية المأساة؟، لماذا غابت التغطية المتواصلة والكثيفة والمعمقة والحملات الإعلامية الضخمة عن فضاء المحنة السودانيّة، كما ما تزال تنالها مأساة غزة، أو محنة سوريا، اليمن، أو الحرب الروسية الأوكرانية مثلاً؟، لماذا لم نرى أي حضور لصحافة التحقيقات الاستقصائية حتى هذه اللحظة؟، لماذا اختصرت تغطية المأساة في شكل “شذرات” مستعجلة تأتي على هامش ترتيب الأحداث في نشرات الأخبار؟.

     إن إجابات هذه التساؤلات كامنة في بواطنها؛ مستقرة في ناصية أن وجود أسئلة ما دليل على وجود كل النواقص والثغرات والإشكالات والقصور التي تتحدث عنها وتستفهمها. في الواقع، تكمن الإجابات، في أن هناك جملة تعقيدات سياسية، وتقاطعات مصالح، وتناقضات أجندة (على المستوى الداخلي والخارجيّ)، تضافرت وتجادلت، سلباً وايجاباً، لتعلن في لحظة ما ان تُعامِل المأساة السودانيّة بهذه الطريقة؛ وأن يكون الموقف العام على هذه الشاكلة؛ أن ينال السودانيون في محنتهم القليل من الاهتمام، والضعيف من التغطية الإعلامية، والمحدود من القلق، والبسيط من الرعاية، والفُتات من الغوث اذا وُجِد.

     وبالتالي كان من المحتمل جداً، أن تأتي السرديّة على هذه الصورة. فغياب الحدث اعلامياً يدل بشكلٍ صريح على مدى إهماله وتجاهله من قِبل قوى السلطة والمال والعكس صحيح؛ فما تتناوله وسائل الإعلام ليس أكثر من أنها هي ذات القضايا والأحداث التي تشكّل أولويات دهاليز السياسة؛ وهي ذاتها التي يُقلق الحراك الاقتصاديّ وشروطه. فكأن ديدن هذه الثلاثية(الاعلام، السياسة، والاقتصاد) التماهي التام علائقياً، والتنسيق المثاليّ وجوديّاً. فما تظهره وسائل الإعلام هو ما يهم رجل الدولة ورقمٌ في البورصة، وما يقوم به هذا الأخير هو ذاته الذي تغطيه الأشكال الصحفية.

     فيتضح أن ثمة بنية علائقية متماسكة بين المؤسسات الإعلامية وهيئات المساعدات الإنسانيّة والدوائر السياسيّة الحكومية هى المسيطرة في تشكيل الصورة وبناء السرديات. وعليه يجب تفكيكها وتذويبها، حتى لأن ينال الضحايا حقهم في الغوث والرعاية والمساعدة المستحقة؛ وحتى لأن تتوقف جهود هذه الأطراف “الماكرة” في صناعة الكوارث والأزمات والاستثمار فيها. وبالتالي فإن الطريقة التي عُوملت بها المأساة السودانيّة (احتلت موقع المهمل والمهمش) ليست أكثر من مجرد انعكاساً طبيعياً لتاثير شروط هذه “البنية الفاسدة”.

     وهكذا نصطدم بحقيقةٍ مؤداها؛ أن السودانيين تعرضوا بالفعل لخذلانٍ كبير من قِبل المجتمع الدولي، كما تعرضوا ايضاً لما يمكن تسميته بسقوط أخلاقي مهني لوسائل الإعلام بممارسة عنف هيكلي (نوعية السياسة التحريرية، وشروط الممولين والمعلنين، ونمط النظام السياسي للدولة) تجاه المحنة السودانيّة؛ فخذلتهم هي الأخرى بشكل قد لا يُغتفر في القريب المنظور. تعامل العالم بمكر وبرود فاضافت وسائل الإعلام (مع حفظ لبعض الصحف والمواقع والقنوات حقوقها في إسهامها المقدر في التغطية) عليها هالةً (بالمعنى السلبي) من التهميش الحارق، والتجاهل اللافت – لا تليق بقيم واخلاقيات صاحبة الجلالة – الذي لا يمكن السكوت عليه بسهولة.

 

حقائق مقابل أكاذيب:

     في الحقيقة، تسبب الحرب في إرهاق الاقتصاد السودانيّ بمختلف موارده ومصادره – الذي هو هشاً ومأزوماً من الأساس – بشكل أدى إلى تداعيه وانهياره بصورة شبه كاملة. ويبقى أن كل الخسائر الكارثيّة التي أحدثتها، السودانيون سيدفعون ثمنها عاجلاً، وآجلاً، بل ستُأخذ، بطريقة قسرية ضمنية، من عرق ومعاناة وعذابات تلك الفئات من المتعَبين والمهَمَشين، والمقهورين، والمنبوذين، والفقراء من أبناء/بنات جمهورية السودان؛ الدولة التي لم تتأسس بعد على أسسٍ سليمة، ونظريات صالحة، ومباديء قيّمة. وقد ساهم هذا الانهيار شبه الكامل للاقتصاد السودانيّ بشرياً ومادياً ومعنوياً – وما يزال يسهم بوتيرةٍ واحدة مخيفة – في إضعاف كارثيّ لمستوى حياة السودانيين المعيشيّة التي هي في الواقع، صعبة ومزرية وقاهرة من الأساس.

     وبالتالي ازدادت المعاناة أكثر، واشتدت المأساة بمستوى أوسع وأكبر؛ فبقى السودانيون يعايشون وضعاً “إنسانيّاً فارغاً” لا يُحسد عليه إطلاقاً، مع استمرار استغلال طرفيّ الحرب “حالة الجوع” التي يعانيها السودانيين كبطاقة ضغط في اللعبة. فميليشيا “الدعم السريع” بالتحديد ما تزال تحاول استخدام “المعاناة الإنسانية وحالة المجاعة” التي وصلتها بعض الولايات، كوسيلة سياسيّة لصناعة فرصةٍ ما لكسب ما؛ لان تخلق لها موقفاً قوياً بها أو تقوّي بها موقفها العسكري والسياسي في معركتها على الجيش، وعلى المجتمعات السودانيّة بأسرها، وهذا أسوأ (مارست أنكى وأفظع الانتهاكات وأعنفها على المجتمع كالاغتصاب، النهب، الخطف، ممارسة الرق…) ما فعلته هؤلاء الجنجويد، وكأن اقتتالها الجيش مجرد غطاءً لحربها ضد الشعب السوداني. وهو سلوكاً غير إنساني، وتصرفاً شرير غير مقبول بالمطلق.

     ووفقاً تقرير صدر للمنظمة الدوليّة للهجرة في 21 مارس الماضي، أنه في 9 ولايات، نزح ما يقدر بنحو ستة ملايين و552 ألفاً و118 فرداً (مليون و308 آلاف و617 أسرة) داخلياً في السودان منذ اندلاع الحرب، وأن أكثر من مليوني شخص فروا إلى البلدان المجاورة، ولاسيما تشاد بنسبة 37%، وجنوب السودان 31%، ومصر 26%. وما تزال موجات النزوح واللجوء والتشريد داخلياً وخارجياً في حركةٍ دؤوبة مستمرة دون توقف، وبشكلٍ غير إنساني خانق مع استمرار تمدد خريطة الحرب نحو المناطق التي لم تطالها منذ بواكيرها.

     وتقول تقارير برنامج الأغذية العالمي، أن 95% من السودانيين لا يستطيعون تأمين وجبة وجبة كاملة في اليوم(هجوم ميليشيا الدعم السريع واحتلالها ولاية الجزيرة، أدى إلى تعطيل زراعة مليون فدان من المحاصيل الزراعية وتدمير البنية التحتية للصناعات الغذائية. وتسبب الحرب وتأثيراتها في تناقص مساحة الأراضي المزروعة هذا العام إلى 37% بالمقارنة مع الأعوام السابقة، فيما تناقصت المساحة المزروعة بالقمح بنسبة 70% على الأقل. وقد نُهبت كل مخازن وصناديق برنامج الأغذية العالمي في كل ولايات دارفور والجزيرة)، وأن العائلات اضطرت إلى شرب مياه المستنقعات، وأن نصف السودانيين، أي أكثر من 24.8 مليون باتوا يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بمن فيهم 18 مليون يواجهون انعدام الأمن الغذائى الحاد، ومن بين هؤلاء قرابة 5 ملايين على “شفا الكارثة”، وهو ثاني أسوأ تصنيف يعتمده البرنامج لحالات الطواريء بعد تصنيف المجاعة. وحسب بيان لمنظمة “أطباء بلا حدود”، أن طفلاً واحداً على الأقل يموت كل ساعتين فى “مخيم زمزم” للنازحين بولاية شمال دارفور بسبب النقص الحاد في الغذاء، حيث يتواجدفيه قرابة 300 ألف نازح.

     وعلى المستوى الصحيّ كأحد الاحتياجات الإنسانيّة الضرورية كالماء والهواء والطعام، فإنه ليس بعيداً عن الوضع الإنسانيّ والغذائيّ بل أكثر سوءاً وأشد تضرراً وبشكلٍ كارثيّ. فأقل ما فيه من سوء؛ انهيار تام لبرنامج تحصين الأطفال، وانتشار هائل للأمراض المعدية والمزمنة، وارتفاع كبير لحالات الإصابة بالكوليرا (10 آلاف و800 إصابة في 12 ولاية)، والإصابة بحمى الضنك (7.500 حالة في 11 من أصل 18 ولاية) كما كشفت وزارة الصحة السودانية. ووصفت منظمة “الصحة العالمية”، الوضع الصحي فى السودان “بعاصفة كاملة” تقترب من أن تجتاح البلاد في أي لحظة إذا لم يتعجل العالم في تقديم مساعدات إنسانيّة، وخدمات صحيّة وطبيّة متكاملة.

     في المقابل، وجهّت الأمم المتحدة نداءً عالمياً هزيلاً لجمع 4.1 مليارات دولار لتلبية الاحتياجات الإنسانية للسودانيين في بلادهم وفي الدول المجاورة، ولكنها لم تتلق سوى نصف التمويل. وعُقدت في بروكسل، ومؤخراً في باريس(اتضح أن لفرنسا مطامح في اللعبة ولأن تجد لها عزاءً في طردها المهين في غرب إفريقيا)، وقبلاً في أروقة الأمم المتحدة المختلفة ومجلس الأمن، مؤتمرات واجتماعات عديدة، لبحث فرص تقديم غوثاً إنسانيّاً للسودانيين، ولكن كان إجمالي ما جُمعت من أموال ومع التبرعات الجانبية لم – ولا مبالغة في قول ذلك – تغطي تكاليف الشحن والترحيل ومرتبات الموظفين ونثرات العمال وبقية تفاصيل اللوجستيات، دعك عن مسألة المواد الإنسانيّة والطبيّة وكميتها  ونوعيتها المطلوبة التي يُراد تقديمها لضحايا الحرب من المواطنين المدنيين.

      بل أظهرت تلك الاجتماعات والمؤتمرات لاحقاً، خاصة مؤتمر باريس(جمع ممثلين للقوى السياسية التقليدية التي تمثل حاضنة ميليشيا الدعم السريع، وأطراف سودانية غير نزيهة لدرجة أن قامت مظاهرات شعبية منددة لتمثيلهم ولو ضمنياً للشعب السوداني، بجانب ظهور دول تريد أن تدخل اللعبة كفرنسا، ومثل بريطانيا الذي يرشح أن ثمة محادثات سرية بينها والميليشيا، فضلاً عن حضور مؤسسات تمثل واجهات سياسية ودبلوماسية لحكومات متوّرطة في الحرب أو تحاول أن تتوّرط)، انها لم تكن سوى مساحات أخرى حُرة تبحث في تعقيدات صراع القوى الكبرى؛ كانت وما تزال تعمل على إدارة وتوجيه تقاطع مصالح وتشابكات أجندة دول الشمال العالميّ الذي لا يقعد له مؤخرة إلا ويحاول باستمرار، تأجيج النيران وصناعة الفظائع ضمن مشاريعه الكبرى للسيطرة والتحكم في كل شيء – ولاسيما مساعيها الدائمة لضبط وإدارة صراعات الجنوب كالاقليم الأفريقي – من خلال صناعة الموت المجاني وتكريسه وإنتاج المآسي. وبالتالي في ظل هذه الاجواء الضبابية، يبقى ذلك السؤال الملحاح: لماذا كل ذلك الإهمال والتجاهل من المجتمع الدولي ومنظماته اللامحدودة كماً ونوعاً، في ناحية المساعدات الإنسانيّة خصوصاً، ليس أكثر من مجرد صرخةً هادئة في وادي الذئاب؛ صرخةً خجلى وسط ضجيج هادر.

     ويبقى أنه رغم صعوبة الاجابة على ذلك السؤال بقدر سهولته، يمكن القول، أن هذه الحرب منذ البداية اتضح للجميع، أنها حرباً ذات خريطة أطراف ومصالح اقليمية ودولية تتقاطع مع أهداف النخبة المحليّة، فجاءت “الطبخة” هكذا، سيئة، فاسدة بل خبيثة. وبالتالي تعثر العون الإنسانيّ وتأثر في السياق السوداني بهذه الدوامة من التشابك، وهذه المعمعة من الصراع والتدافع السياسيّ والايديولوجيّ المعقد. خاصةً مع وجود حقيقة أن المعونات الإنسانيّة الغربية التي تقدم للجنوب، كانت وما تزال تتسم بالفساد، والنظرة الدونية، والتواطيء مع الأنظمة الاستبدادية والحكومات الدكتاتورية، والجهات المدنية العميلة، لدرجة أن افسدت الأدلجة والتسيس (مأساة فنزويلا 2017) الحقل الإنسانيّ بشكل كبير وشوهت صورته بشكل يكاد يفقده روحها بالكامل. الأمر الذي ادى إلى أن نادى الكثيرون بضرورة إعادة ضبط هذا الحقل الحسّاس. عارٌ جداً أن يتم استغلال الشعوب ومعاناتهم، جوعاً على الأقل، في معادلات الظاهرة السياسيّة.

     لان استمرار ذلك قد لا يؤدي آجلاً وعاجلاً إلى خلق المزيد من الصراعات العنيفة بسبب تعارض الأيديولوجيات وتناقض المباديء فحسب (لقد تحوّلت مسألة المساعدات الإنسانيّة إلى حدٍ كبير، إلى سوقاً أسود تُباع وتُشرى فيها الأرواح والأجساد بأرخص الأثمان وأسوأ الصفقات، وأخبث السياسات)، بل قد يفضي إلى توسيع الفجوة الاجتماعيّة بين الطبقات؛ وتوسيع رقعة الصراع السياسيّ بين النخب وقادة العمل الاجتماعيّ، وزيادة حِدة الحساسيّة والتنافس غير الشريف بين المنظمات والهيئات العاملة في المجال الإنسانيّ والحقوقي، والتي هي في الأساس، حواضن وواجهات لسياسات دول، ولأهداف حكومات، ولأجندة أنظمة ومجموعات سلطة ونفوذ.

لماذا “الحرب المنسيّة” وكيف:

   في الواقع، من جملة ما جعلت المأساة السودانيّة يُطلق عليها “الحرب المنسيّة” – وهي عوامل عديدة ومتنوعة، ولها تأثير مباشر وغير مباشر، بجانب تقاطع مصالح السياق الداخلي المحلي مع العنصر الخارجي – طغيان الحرب الروسيةّ الاوكرانية على عين العالم، واستحواذ مأساة غزة (بدأت في أكتوبر الماضي 2023) على المشهد الإقليمي، فضلاً عن الحرب اليمنية والسورية ومعادلاتهما في المنطقة، توترات منطقة البحر الأحمر، التوتر المتصاعد يين إيران وأمريكا وإسرائيل، وتعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي الأمريكي والاوروبيّ الداخليّ، فضلاً عن بعض التحوّلات السياسيّة الحاسمة في منطقة غرب وشرق إفريقيا، وتذبذب سوق الأموال والتجارة العالمية.. استحواذ كل ذلك على اهتمام المجتمع الدولي وقلقه العميق، وحرصه المتوقع،  وذلك ليس لأسباب أكثر من أن كل ما ذكرناه أعلاه أكثر “مصيريّة”، وأكثر من مسألة تضارب مصالح فحسب؛ إنها أكثر مصيريّة بمعنى انها تحمل من عوامل وأسباب وأهداف ما تحدد هوية وشروط وشكل النظام العالمي من جديد، وكيفية استمراره. انها ما تحدد اجندة صراعات مراكز القوة والنفوذ العالمية؛ ولأنها تحدد كيفيّة ومدى ضبط وإدارة والتحكم في صيرورة قضايا العالم وصراعاته والسيطرة في سيرورة التاريخ البشري وكيفية كتابته.

     وبالتالي كان منطقياً ولكن ليس عادلاً، متوقعاً جداً ولكن ليس بريئاً، أن تحتل مأساة السودان بالنسبة للمجتمع الدوليّ مكانةً متأخرة في جدول اهتمامه بالحروب والنزاعات الإقليمية والعالمية الأخرى التي لها تداعيات سياسيّة واقتصاديّة أكثر مصيريّة كالحرب الروسية الاوكرانية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر. فالحرب السودانية( 15 أبريل 2023)، جاءت في سياق تاريخيّ عالمي في غاية التعقيد اقتصادياً وسياسيّاً واجتماعياً؛ أزمات بالجملة، وصراعات مستمرة دون آفاق لأن تتوقف (الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية مثلاً)، كوارث طبيعية غاية في المأساويّة(جملة فيضانات، زلازل، وبراكين)، ونزاعات ذات أبعادٍ مصيريّة حاسمة(قضايا الانفصال في كثير من البلدان على مستوى العالم).

     ذلك هو الجانب البسيط والظاهر للصورة لدى الجميع، بينما الجانب الآخر غير المرئي، والأشد إنعكاساً على المسألة الإنسانيّة بشكل وجوديّ حاسم، إنه “اللونيّة السياسيّة” التي ظلت منذ عقود تلوّث سرديّة “العون الإنسانيّ” وتشوهها بشكل يكاد أن يفرغها من معناها الطبيعي، يحيّدها عن محمولها البريء، وتعزلها عن محتواها الخيّر. فالاقتصاد السياسيّ ومنه “اقتصاد الفقراء” الذي صار سوقاً اسوداً، بات يكرس العنف الثقافي والهيكليّ على الشعوب الضعيفة، ويخلق الصراعات السياسيّة ويعززها من خلال استغلال نوافذ وقيم العمل الإنسانيّ، لدرجة أن أصبحت مفردة “المساعدات الإنسانيّة” من أكبر المفردات الفضفاضة جداً؛ وأصبحت من “أفخاخ” القاموس السياسيّ الأسود اقتصادياً وسياسيّاً.

    وعليه، يمكن القول أن المباديء الإنسانية الأربعة السامية(الإنسانيّة، الحياد، عدم التحيز، والاستقلالية) التي تعارف الجميع على أن تحكم العمل الإنسانيّ وتلوّنه، لم تذهب أدراج السياسة ومعادلاتها فحسب، بل تكاد تفقده معانيه بشكل تام، في سيرورة التعاون الدولي الإنسانيّ. وهكذا تأثر الحقل باللوثة، فتفاقمت الماساة السودانيّة أكثر فأكثر، وأُهملِت بشكل واسع لدرجة أن تم تسميتها “بالحرب المنسيّة”. فإذا وصلت المحنة مستوى النسيان عمداً، أين إذن تلك المباديء والقيم؟.

 

كيف الصراخ بديلاً للإنقاذ:

منذ انطلاق الرصاصة الأولى للحرب وحتى اكملت عامها الأول لم يدين “المجتمع الدولي والإقليمي” بهيئاته ومؤسساته ذات الهُوية الحقوقية والإنسانيّة والسياسيّة، الحرب في السودان، بشكلٍ مسؤول وجدّي وحاسم ليسهم في التأكيد على أنها ليست مجرد نزاع أهليّ مسلح بسيط مفروغ التأثير؛ وانها ليست مجرد “لعبة فيديو” بسيطة كما يلعبها الأطفال، بل أنها حرباً عشواء – ضحاياها شعوباً سودانيّة مقهورة، مضطهدة، وتعيش اوضاعاً إنسانيّة لا يُسحد عليها – ذات انعكاسات خطيرة؛ وذات تأثير محليّ وإقليمي ودوليّ واسع وعميق.

     وكل التقارير والتصريحات والبيانات التي أصدرها تكاد – لضعفها إجراءً ومحتوى ولتأثرها بجملة عوامل سياسيّة واقتصاديّة لها صلة بأطراف الحرب الرئيسة أو الثانوية ومصالحها – أن لا تتعدى أن تكون أكثر من مجرد “إجراءات تشغيليّة جوفاء” ضروري القيام بها لضمان سيرورة ضخ وإدارة وإنتاج “اقتصاد الفقراء” بشكل أوسع واعمق. بيانات إدانة وإستنكار تكمن ضعفها في أنها تكاد لا تذهب أكثر من “بساطة وعفوية” تلك التي أصدرتها/تصدرها الأجسام السودانية – الشعبية والمهنية والمطلبية – التي ليس لها تأثير مباشر على مجرى هذه القضايا أو تلك الأحداث. بل حتى أن بعض بيانات التنديد والشجب التي اصدرتها المجموعات المحليّة، كانت أقوى تعبيراً، وأشد لهجةً مما قامت بها تلك “الجهات الدولية” ذات القوة والنفوذ – سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً – على مستوى الكون.

     وبالتالي فإن كل الضجة والصراخ المحبوك إعلامياً، الذي يملأ أوراقها ودفاترها ليست سوى “أكاذيب ولغة منسوجة بإيقان”، بل انها لا تتعدى ناحيّة المهام الوظيفيّة المهنيّة – يمكن مراجعة هذا الادعاء في مسيرة الأزمة السورية، ومأساة غزة المستمرة، وأحداث جنوب السودان 2017، ونكبة الصومال 2011 – التي تقوم بها موظفوا “الأمم المتحدة” بكل همة ونشاط لضمان استمرار مرتباتهم وترقياتهم وحوافزهم التى يمكن أن تأمن حياة الملايين لعدة سنوات في خارطة دول الجنوب. كان إن تحركت فعلياً لانقاذ وتخفيف المعاناة والشدة عن السودانيّين أفضل من مداومة الصراخ في الفراغ.

     إنسانيّاً، وخلال عام كامل لم يتحرك “المجتمع الدولي” بشكل جاد وصادق بل وحقيقي (مقارنةً بحركته في شأن نكبة غزة وسوريا واليمن واوكرانيا مثلاً) لكي ما تقدم “الغوث الإنسانيّ” للشعوب السودانيّة؛ العنصر الضحيّة والطرف الأضعف في المأساة. وحتى التي قُدمت في ولاية غرب دارفور كانت محدودة بشكل ساخر ومضحك، وتم توزيعها – ويا للحسرة والأسى – بصورةٍ إنتقائية للغاية؛ إذ ذهبت إلى العناصر العربية فقط. وهو الأمر الذي يؤكد زعمنا بأدلجة وتسيس المأساة عالمياً واثننتها (جعلها ذات صبغة إثنية) محلياً – هذا غير الجانب العنصري والتمييزي وما يمكن أن يؤجج نيران النزاعات القبليّة التي هي موقوتة الانفجار في غرب السودان على وجه الخصوص – بواسطة محور المساعدات الإنسانيّة والحقوقيّة.

     وبالمناسبة، مقابل ذلك الغياب الكبير لروح الأمم المتحدة ومنظماتها إنسانيّاً واقتصادياً وسياسياً في الشدة السُودانيّة، كان للجانب الآخر للشخصية السُودانية بروزاً واضحاً وتأثيراً كبيراً في المشهد، فإذ انخرطت غرف الطواريء – مخاطرين بأرواحهم بل أودت بحياة بعضهم في المجال – التي أنشاتها لجان المقاومة السودانية فور اندلاع الحرب في تقديم خدمات جليلة تفوق كبر هيئات عالمية هربت من المسرح. حيث استطاعت بجهود شعبية عظيمة، تقديم مساعدات كبيرة مقدرة في مجالات الصحة والغذاء والماء والإيواء والدواء في كثير من المناطق المتاثرة بالحرب. فكانوا أول وأكبر المتصدين لمجابهة الوضع الإنساني الكارثيّ. بل أنها – ويا لنُبل روحهم – ساهمت وبشكل فاعل في إجلاء العالقين في مناطق الحرب إلى مناطق آمنة، ومن بينهم كثير من الدبلوماسيين والموظفين الدوليين في منظمات الإغاثة.

     وأكثر ما يمكن أن يشهد إلى حدٍ ما، على “فرجة” “الأمم المتحدة ووكالاتها – لم تصمد سوى أطباء بلا حدود، الصليب الأحمر، ومجلس اللاجئين النرويجي حتى الآن – واهمالها المتعمد وطغيان الصبغة السياسيّة (politicization of humanitarian Aid) والايدولوجيّة على هُوية قولها وفعلها، الهروب الكبير (بتامين وتنسيق وحماية من كلا طرفيّ الحرب) الذي قامت بها من مسرح المأساة، وخروجها الكلي من السودان منذ أقل من أسبوعين فقط من اندلاع الحرب، ثم غيابها شبه التام عن تطورات المحنة مع تضارب تصريحات موظفيها هنا وهناك وتصارع مواقفهم. ويتجلى تخبطها السياسيّ والايديولوجي بشكل لافت وتناقضات الأجندة في دفاترها، فيما قاله أمينها العام، انطونيو غوتيريش، في اليوم العالمي للمساعدات الإنسانية هذا العام، على منصة “اكس” عن تفاني وشجاعة العاملين في مجال العون الإنسانيّ في تقديم يد المساعدة؛ مقابل مشهد فرارهم عن منطقة الفجيعة التي وجدوا أنفسهم فيها.

     كيف تمدح نفسك مع تزامن هروبك ممن ينبغي خدمتهم حتى لكي تستحق التحية والإشادة؟، كيف يستقيم تراخيك غيابك وقت الحاجة إليك؟، أليس من وظائف هيئة الأمم المتحدة تقديم الدعم والحماية والغوث لكل ما يحتاجه اثناء النكبات، وبكل ما تتمتع بها من قوة وجهد؟، أليس من الأهداف السامية لتأسيس المنظمات الإنسانية تخفيف المعاناة والشدة (أصبح شبح المجاعة تحصد أرواح السودانيين أكثر مما تلتهمهم نيران الرصاص) عن كاهل كل ملهوف، وكل مستضعف ومنكوب؟، أين قيم المساواة والنزاهة والعدالة في روح هذه الهيئة ومنظماتها عندما نقرأ أنه في غضون عام واحد أصبح عدد الأشخاص في السودان، الذين يعيشون في مرحلة الطواريء لانعدام الأمن الغذائى أكبر من عدد الأشخاص في أفغانستان، وجمهورية الكنغو الديمقراطية، وثلاثة أضعاف العدد في فلسطين، وأربعة أضعاف العدد في اليمن؟، لماذا لا يُعامل الجميع أثناء الكوارث والأزمات على السواء؟.

     يبدو ان تلك المباديء والقيم قد ذهبت أدراج السياسة والايدولوجيّا والاستثمار في الصورة السوداء. وفي وقت سابق اتهم مدير مجلس اللاجئين النرويجي النظام العالمي بالعنصرية – بشكل صريح – لتعثر وتعطيل الإغاثة الإنسانيّة للسودانيين مقارنةً مع ما تناله مأساة غزة او اليمن مثلاً. وهذا يوحي بجلاء أن هذه المنظمة الدولية تحّولت إلى مجرد “بالونة” في يد قوى الشمال العالمي الاقتصاديّة والسياسيّة. فحالها أصبحت تصدق مما قاله الأمين العام الثاني للأمم المتحدة، داج هوميرشولد: “عندما نسعى جميعاً للتعامل بحرص بغرض الحفاظ على أمننا الذاتي، فإننا نخلق عالماً في غاية عدم الأمان، وعندما نسعى جميعاً للحرص على أمننا الذاتي، فإن هذا المصير سيقود إلى هلالنا، فقط في الظلال المظلمة للشجاعة يمكننا كسر هذه التعويذة”.

وماذا بعد؟:

     عندما نناقش – بهذا المستوى من الحرقة والأسى والشدة – المأساة السودانيّة؛ إنسانياً، وإغاثياً، وحقوقياً بالنسبة للاهتمام الدوليّ وسط جملة أزمات وكوارث عالميّة، يجب أن يدرك الجميع أن الأمر ليس محاولة طلب استعطاف العالم تسولاً، بل ان الأمر يُقرأ في خانة الحقوق العادلة المستحقة. فأنشطة المنظومة الأممية ضمن إطار التعاون الدولي للشعوب كما تضمنتها معاهداتها ومواثيقها وقوانينها، ليست أعمالاً خيريّة مجردة تُمنح وتُقدم منّةً، وتقوم على أساس طيبة قلب الدول والمجموعات الدولية المانحة أو التي تقدمها، انما ينبغي قراءتها في سياق أنها واجبٌ دوليّ إنسانيّ عُرفيّ وحقوقيّ تم التعارف عليه، فضلاً عن اعتبارها ردّ دين ضمنيّ مؤجل منذ أكثر من 5000 عام من تجربة الاستعمار والاستغلال – تجربة اسهمت في تعطيل صيرورة التطور الطبيعيّ لمجتمعات الجنوب، وأدت إلى خلق حالة من عدم المساواة وعدم العدالة وعدم التكافؤ بين ظروف ومسارات تنمية العالمَين – التي وقعت على شعوب ودول الجنوب العالميّ حصراً بأيدي الشمال العالمي.

     وبالتالي أن يركل العالم المحنة السودانية إلى سلة “المُهمل وغير المهم” بل والمنسِيّ، يُعد عملاً غير مشروع، وإجراءً غير عادل، وممارسة غير ناضجة، وفعلاً غير مقبول على الإطلاق. للسودانيون حقوق وكرامة وكيان وهويات اجتماعية وسياسيّة كما للآخرين. لهم ذات الكيان الإنسانيّ الطبيعيّ، وعليه يجب محاربة هذا التعامل “العالمي” الجائر، ويجب مجابهة هذه الإفرازات الغير مسؤولة التي باتت تهدد وجوديّة مجتمع الأمم المتحدة وروحها الإنسانيّة المطلوبة.

      فهذا “اللوث” – في مستوى ما – هو ما تسبّب في زيادة معاناة السودانيين واستمرارها؛ إنه المساهم بشكل مباشر لأن تصل مأساتهم من مرحلة شبح المجاعة إلى المستوى الخامس – لم يتبق سوى إعلانه – وهو ما يصطلح على تسميته بالمستوى الكارثيّ. فالأرقام وتواليها في التحديث كل لحظة للمعاناة مخيفة، ومرعبة بشكلٍ خانق للغاية. ومظاهر الكارثة الإنسانيّة الشاملة التي ما يزال السودانيين يعايشونها بنفاد صبر الآن بعد مرور عاماً كامل، لم تختصر على مناطق خارطة الحرب فحسب مع تمددها يومياً، بل باتت تهدد كل بقاع السودان – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – بسبب تداخل جملة افرازات وآثار الاقتتال الدائر. سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. حيث أن 60% من التعداد الكلي للسُكان، بينهم 14 مليون طفل، في حاجة مباشرة للمساعدات الإنسانية، و49.75% من التعداد في حاجة ماسة للعون الغذائيّ. بينما تتجلى حالة “المجاعة” في كل أنحاء البلاد بنسب مختلفة؛ حيث نسبة المدنيين المتأثرين بالنقص الغذائي الحاد؛ 60% في ولاية غرب دارفور، 55% في ولاية الخرطوم، 48% في ولاية جنوب كردفان، 43% في ولاية كسلا، 31% في ولاية الجزيرة. مع الإشارة إلى أن الحدّ المطلوب لإعلان حالة المجاعة هو عند نسبة 20% من السُكان.

      وهكذا وبكل هذه المعطيات المخيفة، هل سيستمر العالم في إهماله وتجاهله عمداً لمحنة السودانيين أم سنرى لفتة ما/تغيير ما سيُحدَث في قادم الأيام؟، هل ستواصل وسائل الإعلام في التهام ذات الجانب الأسود من الصورة، وتتغذى على ذات خطابيّة المجاعة الموجودة أم ستكف عن ممارسة السخف والغباء والحمق المهنيّ؟، هل ستُعلن “المجاعة” رسمياً في السودان، سواء من جانب السلطات السودانيّة أم الهيئة الأممية أم سيستمر العالم مع السياق السوداني المحليّ في ممارسة التساهل والتراخي واللامبالاة فتستمر المعاناة في إنتاج وتفاقم نفسها بلا رادع؟، هل ستُعاد ترتيب جدول اهتمامات الأمم المتحدة بمنظماتها وهيئاتها المختلفة؛ فستنال الكارثة الإنسانيّة السودانيّة موقعها المستحق؛ تأخذ مستواها الحقيقي من التعاطف والتضامن الذي يجب أن يجده السودانيين منذ بداية مأساتهم أم سيستمر المشهد على ذات المنوال؛ وستستمر النكبة في توليد/إنتاج أسوأها من نتائج ومآلات ومصائر؟.

 21، ابريل، 2024.جنوب السودان، جوبا

تم.

Translate »