السُلطة في السودان: سؤال عنف النُخبة ومتلازمة التمرد على الدولة!

واجومانيوز

بقلم: محمد أبكر موسى
لماذا العنف السياسيّ والاجتماعي، يُعد السمة الأكثر حضوراً في سرديّة السُلطة في سودان ما بعد الاستقلال؟، كيف ومتى بدأت قصة عنف النخب في التجربة السياسيّة المحليّة ولماذا؟، لماذا تلازم لغة البندقيّة مصير دفاتر الممارسة السياسيّة ؟، ما مدى تأثير وتأثر السياق الخارجيّ والجوار بالعنف السياسيّ الذي ظل يصاحب تجارب تداول السُلطة في السودان على الدوام؟، مما تتغذى سيرورة العنف السياسيّ، وما إنعكاساته على بناء الدولة وتنميّة المجتمع؟، إلى متى يعاني السودان من روتين صوت السلاح؟، لماذا تحوّل السودان إلى بؤرةٍ للحروب، وفضاءً للفوضى والعبث؟.
هذه الأسئلة وغيرها، تحاول هذه المقالة فحصها ومناقشتها في إطار محاولة البحث والامساك بإجابات ما، وإن كانت مرنة، حمّال قراءات، وغير قاطعة، أو على الأقل تستطيع ملامسة مواجعها في أخبيتها المحظورة لفضحها، لكشفها، وحثها للخروج إلى العلن. نسعى، باستخدام معاول وصفيّ نقديّ تحليليّ، إلى إجراء مكاشفة معها، وطرحها بقوة على طاولة الحوار العام. ولِمّا لا ونحن نفتقر بشدة إلى روح السؤال؛ كمْ نعاني من نقصٍ حاد – وهي حاجتنا الماسة؛ نحن شعوب الجنوب العالميّ – في حساسيّة طرح الأسئلة الحرجة، ومحاولة التجديف عميقاً في لُجج التساؤلات الملحاحة التي تضمر قضايا حساسة، وتستبطن إشكالاتٍ حاسمة، ومسائلا مصيريّة.

صفحة تاريجيّة جديدة ولكن:

     بعد قرابة أكثر من ستة عقود من القبضة الاستعماريّة – البريطانيّة المصريّة، أخذ السودان كدولة ناشئة، استقلالها في العام 1956، بعد رحلة نضالٍ طويلة للتحرير والانعتلاق، تخللتها جملة مآسٍ، مخاطر عظام، وتحديات جسام. وبالتالي يكون قد اسدلت الستار على صفحةٍ سوداء أخرى – بعد تجربة الاستعمار التركيّ المصريّ – وفصلٍ آخر من العذاب في التاريخ السياسيّ والاجتماعي الحديث للبلاد. تجربة استقلال جديدة يتوقع بعدها السعي الجاد – بتضافر كل الجهود والقدرات والموارد – إلى سودنة عادلة للذات والقدرة والتاريخ السودانيّ، تقود إلى خلق صفحة تاريجيّة جديدة بأيدي وعقول محليّة تبني دولةٍ وطنية حديثة مزدهرة ذات سيادة كاملة – ويتم إدارتها بعقلانيّة ورُشد، وتتداول السلطة فيها بسلميّة مشروعة وعادلة وبلا عنف – وتنمّي مجتمعاتٍ تتمتع بتنوع ثقافي واجتماعي واثني هائل. فالحُلم السودانيّ دهرئذ، كان التحرير كلياً، ثم التعمير تدريجياً بروح وطنية محليّة خالصة، وبدون إكراه أحد على ممارسة أي عنف أو ارتكاب أي انتهاك، أو خلق أي صراعٍ أو إشعال اي حرب في أحسن الفروض، ولكن التاريخ من حينها إلى الآن، يسرد لحظاتٍ غير، ويكتب سردياتٍ أخرى مغايرة تماماً عما كان يُحلم بها، ويُنشد، ويُرجى. لماذا وكيف وماذا حدث؟.

النخبة والصيد في المياه العكرة:

      تُعد اللحظتان الاستعماريتان  – الاستعمار التركي المصري، الاستعمار البريطاني المصري – تُعد أهم لحظتان مهمتين حاسمتين في صفحة تشكيل السودان كدولة وطنيّة حديثة من جانب، في بناء مجتمعات هذه الدولة الناشئة، وإعادة تشكيلها من جديد على أسس مختلفة ومفاهيم حديثة من جانب آخر.
لم تؤد هذه اللحظتان الاستعماريتان – بشكلٍ أساسيّ – إلى خلق بوتقة اجتماعية جديدة غير متماسكة للتكوين الاجتماعي المتنوع للبلاد فحسب، إنما أفضت – تلك اللحظتان بصورةٍ حاسمة – إلى تأسيس دولةٍ مختلة هيكلياً؛ معيبة اجتماعياً وسياسياً؛ تقوم على أشكال حُكم مؤذية، وأنماط اقتصاد سياسيّ عنيفة(مؤسسة الجلابة، وتجارة الرق..) صاحبتها معايير اجتماعيّة غير عادلة بل مغايرة لمّا ألفتها مجتمعات هذه الدولة الناشئة. وتلقائياً قد صنع هذا الخلل المركب، ممارسات خبيثة، وسلوكيات خداعة وُضِعت قسراً، فوق عناصر سودانيّة ذات أصالة وتاريخ متجذر في التربة المحليّة.
ولكن يظل المحكّ الرئيس في هذه المسألة، أنه رغم وعي النخبة السودانيّة – وهنا نقصد بهم بالتحديد؛ مؤسسة الجلابة، طبقة الأفنديّة، وأحزاب وتنظيمات النادي السياسيّ التقليدي – بذلك “الخلل البنيويّ” الذي خلقتها السياسات الاستعماريّة في هيكل الدولة وبنية المجتمع، وخلّفتها في سودان ما بعد الاستقلال، حاولت بجهودٍ مكلفة، بل قاتلت باستماتةٍ كبيرة في سبيل الحفاظ على تلك الوضعيّة الفاسدة، والمحافظة على هذا الخلل المؤذي، أو على الأقل، المحافظة على استمراريتها لأطول فترة ممكنة. لماذا فعلت وما تزال تفعل ذلك، لأنها بكل بساطة صنيعة هذه اللحظة الاستعمارية بالأصالة. هي مخلوق ذلك المخلوق الغازي ومنتوجه. هي وُجدت بسببها، فلم تكن لها وجود ما لم يكن لهذا المستعمِر وجود في هذه البقعة تقريباً.
وبالتالي ظلت الدولة السودانيّة بمختلف الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على حُكمها – وبسبب العنف السياسي والاجتماعي لهذه النخبة ومناظيرها المؤذية بشكلٍ رئيسي – تعاني باستمرار من تجارب التمرد عليها؛ معارضة سياساتها التي في الأغلب تكون جائرة؛ محاربة قراراتها التي من المألوف كانت غير عادلة. ثم كم ارهقتها وما تزال، لعنة النزاعات القبليّة والحروب الأهليّة التي في الغالب، تستمر لفترات طويلة، في مناطق الهشاشة والسيولة الأمنيّة المفرطة – وهي من صنع الأنظمة السياسيّة وصراعات النخب ومحاولتها المستميتة لاستمرارها وتثبيتها – أهمها؛ الإقليم الغربي، النيل الأزرق، وجبال النوبة.
وحتى مع هامش وجود نفرٍ ممن ينظرون إلى الوطن بروح وطنية وبروح معركة نضال وطني مؤجلة، وما يزالون يخوضون معاركاً جادة، لم تتحرك هذه البلاد خطوة واحدة صوب خطوات التنمية والحكم الراشد والدولة الديمقراطيّة الناجحة على الأقل. فالتتريس السياسيّ العنيف الذي تمارسه الطبقة السياسيّة، كانت وما تزال أقوى وأصلب، وقد امتدّت إنعكاساته وتأثيره على كافة الأصعدة، مقارنةً بقوة ورغبة حفنة من الشعب. فهذه البلاد لم يؤذيها أكثر وأشد كما فعلت وما تزال تفعله ما يسمونهم فئة “النخبة” بمختلف مشاربهم، وتباين أيديولوجياتهم. فهؤلاء كم ساهموا في تجهيل وتغييب، عن قصدٍ وكيدٍ وتآمر، الكثير من القضايا الحساسة والمصيرية، عن دفاتر التداول الجاد في طاولة صناعة السياسات وهندسة الحوكمة الشاملة للدولة.
وبالتالي كان تلقائياً أن تقضي هذه الدولة أكثر من خمسة عقود من عمرها بعد الاستقلال في وحل الدم والصراعات وانتهاك الحقوق. فعنف النخب الممتد رفقة استمرار الخلل المركب في هيكل الدولة الذي صنعته المستعمِر، ساهمتا بشكل محوريّ، في خلق فجوات واسعة، وعملتا على تأسيس غياباً لافتاً لأي نظريّةٍ سودانيّة عمليّة قد نيتهم في تذويب الكثير من التناقضات الاجتماعيّة المؤذية، وتقضي على معظم الإشكالات الثقافيّة الموروثة، وهي سلبيّة وعنيفة. كما قد تسهم في بناء مشروع تنمية متكامل شامل ينهض بالبلاد في غضون فترة وجيزة.
بعد انفصال الجنوب – والذي فتح الباب مشرعاً لتوّسع النزعة الانفصاليّة لبقية المناطق التي تعاني بشدة من الإقصاء والتهميش الممنهج والشامل – اتضح للجميع أنه لم يكن المحور الأساسي في استمرار المسالة السودانيّة المختلة، بل كانت واحدة من جملة تناقضات كامنة ظلت تتكاثر بخشونة على هيكل الدولة الأم، وبنيّة المجتمع وعوامل نهضته. كما تكشّف واضحاً، أن ذلك الصراع المعقد والشائك بين النخب، والذي قسّم البلاد خطياً إلى جنوب مسيحي ذو ثقافة إفريقية زنجية وشمال مسلم ذا ثقافة عربية، وهو الذي عززّ جدليّة الهامش والمركز، لم يكن سوى زوبعةً فكريّة، وفقاعةً صراعيّة، و”فخاً” مفاهيميّاً وقعت في شباكه النخب بمختلف أطيافهم، وتباين مسمياتهم، وأرغموا الجميع على تصديقه، وبكل خشونة.

• رحلة السُلطة ومتلازمة العنف:

     ربما كان ما يمكن تسميته ب”الحلم السودانيّ” – الذي كان يجب أن يتشكّل لاحقاً مع بداية الانعتلاق من الاستعمار ورواسبه التي لوثت تاريج السيرورة الاجتماعية والسياسيّة للبلاد – ربما كان مجرد حُلمٍ فحسب. فبعد الاستقلال تحوّل الوضع إلى شيءٍ آخر لا تمت بما هو منشود بصلة تقريباً. فبعد الاستقلال مباشرةً، بل حتى خلال فترة الحُكم الذاتي؛ الفترة الانتقاليّة التي يجب أن تمهّد للسودان الحُر المستقل، دخلت البلاد في دوامة صراعاتٍ سياسيّة حادة قادت لاحقاً إلى اندلاع أسوأ النزاعات القبليّة، وأطول الحروب الأهليّة في العقود الأخيرة.
فرحلة العنف السياسيّ على وجه التخصيص – وهو العامل الأكبر في خلق معظم/كل المآسى والشرور في السودان – بدأت بصراعات الأحزاب والتنظيمات السياسيّة حول السُلطة وكيفية إدارة البلاد؛ منها صراعات حزب الأمة والاتحادي التي لها امتدادات إلى التجربة الاستعمارية الأولى، وضعية الحزب الشيوعي والأحزاب الأخرى في اللعبة السياسيّة، فضلاً عن تنظيمات إقليميّ كردفان ودارفور والصوت الجنوبيّ. فالكُل يحارب الجميع في سبيل محاولته المستميتة لكسب منصب معين،  أو حظو مكانة اجتماعيّة ما، أو ايجاد وضعية سياسيّة محددة بأي طريقة ممكنة. الأمر الذي فضح نوايا الجميع وكشف أسرارهم؛ ووضح مدى ضعف همتهم للسعي الجديّ نحو بناء دولة وطنية ناجحة بمشروع تنمية متكامل.
بل أن تلك الصراعات السياسيّة أظهرت بواطن الأمور حول منظور واعتقاد وتفكير هؤلاء النخب بمختلف مشاربهم حول أنفسهم، وحول بعضهم البعض، وأيضاً حول المجتمعات السودانيّة المتفرقة والمنتشرة على طول وعرض البلاد. فظهرت من هناك جدليّة صراعات المركز والهامش – وهو صراعاً وجدليّة قديمة نسبياً تعود بوادرها إلى بدايات تكوين العقل السياسيّ والاجتماعي السودانيّ في بدايات القرن التاسع العشر وقبله – على العلن، وتكشفت بجلاء فاضح قضايا مركزية حاسمة على طاولة الصراع السياسيّ الايدولوجيّ المحتدم؛ قضايا ومسائل مثل؛ الهوية، نوعية نظام الحُكم المناسب والمقبول لطبيعة الدولة، السيادة الوطنية، وقضايا توزيع السلطة والثروة.

تهميش فأول تجربة تمرد على الدولة:

     أهم جانب يمكن أن يقيس مدى التخبط السياسيّ الممهور بعنف النخبة ومنظورها المختل تجاه قضايا الوطن وبناءه، المواطن وتنميته. وهو جانب يوضح بشكل كبير حجم وعمق اشتداد ظاهرة العنف السياسيّ في الممارسة السياسيّة دهرئذ إلى هذه اللحظة السودانيّة الحرجة (حرب 15 أبريل 2023). إنه جانب تجربة التمرد الأولى على الدولة السودانيّة الناشئة، التي قامت بها كتيبة الاستوائية في الثامن عشر من اغسطس عام 1955م.
فهذه التجربة العنيفة – وهي تجربة حدثت قبل الاستقلال الكامل والنهائي من لحظة الاحتلال – على مسرح الممارسة السياسيّة التي بدأت تتشكل بعد عقود من الكبت والقهر والاحتلال، تكشف بشكل فاضح الصورة الكليّة للخلل الاجتماعي والثقاقي والحضاري الذي شكّلت اللحظة الاستعمارية به – قسراً – الإطار السياسيّ للبلاد كدولة ناشئة. كما أن هذه التجربة تعبّر بوضوح عن مدى الغضب الذي يستبطن احشاء سُكان الجنوب تجاه عنف الدولة – هيكلياً وسياسياً واجتماعياً – وقهرها لهم ومنظورها القاصر تجاه بعض أطراف البلاد، بل إن هذه تجربة تُعد إنعكاساً عارياً للوضعيّة السياسيّة غير المنصفة للجنوب كجغراقيا ولحظة استعماريّة لها خصوصيتها، وكإنسان ذا مكنون اجتماعي وسياسي وديني، واقتصاديّ مختلف.
كما أن ذلك التمرد، يعتبر شاهداً مباشراً ودليلاً دامغاً على واقع هشاشة التمازج السياسيّ الواهن من الأساس – الذي صنعه المستعمِر واستمرت “النخبة المحليّة” في تثبيتها واستغلالها في تشكيل سلوكيات عنيفة وبناء مؤسسات انتهازيّة نافذة تخصها – وضعف ولاء المكونات الاجتماعيّة للدولة مقابل متانتها للقوالب الاجتماعية الأولية كالإحتماء بروح الإثنية، والزود بالعشيرة، والولاء الكامل لزعيم القبيلة لا لكيان الدولة وسيادتها، والتي هي مفقودة بالأساس في هذه الحالة السودانيّة.
وأكثر من ذلك، يمكن القول أن ذلك التمرد العسكريّ ضد الدولة، كان البذرة الأولى لضعف صمود البلاد موحدةً؛ وكان البذرة التجريبية للذاكرة الضخمة التي تزخر بها تاريج البلاد من حينها، بتجارب التمرد على الدولة، وتجارب الإنقلابات، وتجارب محاربة المجتمعات أيضاً. كما يُعد بمثابة أول تجربة محليّة تختبر مدى قوة الذات السودانيّة على صناعة  دولة وطنية ناجحة. فضلاً عن اعتبارها البادرة التي مهّدت الطريق مسبقاً وبكل سهولة لانشطار الدولة إلى جزئين في يوليو عام 2011 بعد أن تلاشت إمكانية بقائها موحدة.

• مشكلة الجنوب على دفاتر النخبة:

     لم يكن الجنوب من يومها – أي منذ الحقب الأولى لتشكّل السودان – من المفكر فيه بالشكل المطلوب والقدر الكافي، في دفاتر النخبة السودانيّة التي استعملت سلطة وإدارة البلاد من المستعمِر، بل المسألة الجنوبية هذه لم تكن من المشاغل المهمة والحساسة لتلك الفئة، لدرجة انها – أي الحكومة السودانيّة الانتقالية حينها – لم تتعامل مع سردية تمرد 1955، بحساسية سياسيّة واجتماعية كافية باعتبارها سلوك غريب، وظاهرة جديدة لافتة ظهرت في سياق تاريخيّ إنتقاليّ حرج، بل تعامل معها بشكل طاريء وظرفي ضيق وبالشكل الذي يصب في خانة الترتيب لصالح إعلان الإستقلال. وبالتالي يمكن القول ملياً ان مشكلة الجنوب صحيح خلقها المستعمِر، ولكن لم يعقّدها أكثر فأكثر بالمستوى الذي يضاهي ما تتحمّل النخبة السودانيّة المحليّة وزر تعقيدها الأكبر.
كل ما فعلته تلك الحكومة الانتقاليّة حيال قضايا الأطراف لم يتعدى النظر إليها على هامش الفراغ؛ نظرةً ملؤها كيد، تآمر، وضحالة الرؤية. فالجنوب مثلاً، حصرت تلك الحكومة اهتمامها به فقط في مسائل مثل نشر اللغة العربية، انشاء مستشفيات خيرية، نشر الإسلام ضد النشاط المسيحي التبشيري، وذلك بجانب بعض الأنشطة كمخاطبة رجال المال والأعمال في مصر وتشجيعهم للاستثمار في السودان، والدعوة إلى نظام اتحادي مع مصر الاستعماريّة. وهذه المشاريع ويا للسخريّة، مفعولة وسارية التنيقذ، وهي أفكار الكولونياليّة في الأساس. وهو الأمر الذي يشير إلى حالة الفراغ المؤسسيّ – في صناعة السياسات العامة وبناء نظام حوكمة متكامل عادل – التي كانت النخبة تعاني منها، بل مستمرة في المحافظة عليها، وتثبيتها مقابل كسب صراعها حول السُلطة والثروة وصناعة الرأس المال الاجتماعي فقط.
وهكذا يمكن القول أن النخبة الأولى وبالخصوص الطبقة السياسيّة منها أيام الاستقلال، وعلى رأسهم النخبويّ الاتحادي اسماعيل الأزهري، والذي يعتبر ممن وضعوا اللبنة الخبيثة الأولى في جسد دولة وطنية ناشئة، وذلك بالهروب من المعركة الكبرى، ومن الأسئلة المركزية، مقابل التركيز ملياً على هوامش الأمور، وحواف النواصي، كانت تتخبط بعدم إكتراث كبير في وحل الإنتهازيّة والنزعة السلطويّة بشكلٍ يدعو إلى الضحك. فعوضاً عن الإيثار بالوطنية وروح النضال الثوريّ ذهبوا إلى تعزيز جدلية الهامش والمركز وتأجيج التوتر الاجتماعي الذي يعاني منه البلاد منذ تكوينه.
والحكومة الأزهري بالتحديد، تعتبر المسؤولة الأول بشكل الاساسي عن تفاقم إشكالات الجنوب وتعقيد قضاياه ناهيك عن قضايا بقية المناطق الهامشيّة، وهي التي كرست العنف بمختلف أشكاله ومستوياته، وأسست – في الممارسة السياسيّة – للعنف البنيويّ فلسفةً ومنطقاً وثقافة فيما هو آت. فمثلاً في قضايا توزيع كعكة السُلطة، قامت حكومته برفض تعيين الجنوبيين في وزاراته، واكتفت لجنة السودنة التي شُكلت في يوليو من العام 1954م بتعيين ستة(6) فقط من أبناء الجنوب لأكثر من 800 وظيفة تم استيعاب الشماليين فيها. وهكذا كانت وما تزال سرديّة تلك التمرد، من أهم المحاور الرئيسة في تناول مسألة الجنوب على الوجهة السياسية والثقافية، ومن أهم التجارب التي تأسست عليها الكثير من الإشكالات العالقة، وما تزال تحتاج إلى المزيد من التنقيب والتداول والمناقشة.

الإنقلابات وترسيخ ثقافة التمرد:

     في سياق تجارب التمرد المسلح على الدولة من خارج دوائر الدولة، وهي تدخل في دائرة مصطلح، الجهات الفاعلة غير الحكومية (non-state actors)، كانت تجربة حركة “الأنانيا”(والاسم يعني سم الثعبان الأسود بلغة المادي المنتشرة في جنوبي السودان) في عام 1955، قبل إعلان الاستقلال ببضعة أشهر. تأسست هذه الحركة لتحارب الحكومة الانتقالية المركزية في حرب اهليّة سودانية هي الأولى في تاريخه المستقل، وهي كانت حرب الجنوب الأولى عام 1955م، والتي انتهت عام 1972م بتوقيع اتفاق سلام في أديس أبابا، مع نظام جعفر نميري، وقد انهار عام 1983م الأمر الذي مهّد لإعلان حركة “الأنانيا تو”، والتي تطورت لاحقاً لتصبح “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، التي خاضت الحرب الأهلية السودانيّة الثانية (1972-2005) بقيادة الرفيق الراحل جون قرنق، والتي انتهت بتوقيع اتفاق السلام الشامل في 2005، والذي أدى إلى انفصال الجنوب لتصبح دولةً مستقلة في العام 2011 باستفتاء الوحدة أو الانقصال.
وفي ناصية التمرد على الدولة من عناصر داخل إطار الدولة، يمكن القول أنه، لم تعيش، معمعة التخبط السياسيّ الذي كانت الحكومة الانتقالية الأولى عقب الاستقلال، طويلاً حتى ضُربت بتجربة عنف هيكليّ جديد، يعتبر أول تجربة تمرد رسميّ خارج دائرة الدولة على الدولة. إنه انقلاب الفريق إبراهيم عبود في العام (1958 – 1964)، أي بعد عامين فقط من التحرير السياسيّ الكامل للسودان من المستعمر الإنجليزي المصري. وبالطبع كانت النخبة السودانيّة من النادي السياسي التقليديّ وفي إطار صراعها الخشن، هي المسؤولة الأولى من قيام هذا الانقلاب الذي يُعد بمثابة انعكاس طبيعي لهشاشة وعنف وسهولة هذه الطبقة السياسيّة المحليّة والتي هي صنيعة المخطط الامبرياليّ التوسعيّ في العالم.
ان يخرج المستعمر من بلاد لحظاته الاحتلالية، ولكن يترك إرثاً فكرياً وسياسياً، وثقافياً هائلاً – لكي يتلوّث به المستعمَرين ويتلبسونه – ذو قدرة خرافية على مسايرة الزمن، تقلبات الأنظمة السياسيّة في صيرورة الدولة. فهؤلاء لم يكونوا سوى ذاك المخلوق الذي خلقه ذلك المحتل وتركه يدير شؤونه بعد خروجه التكتيكي، وفي حالة غيابه المؤقت. وبالتالي لم تصمد تلك الحكومة الانتقالية –  هي في الأساس نتاج صراع سياسيّ غير مشروع وعادل بين النخب السودانيّة المحليّة – طويلاً وسط جملة تناقضات وإشكالات مركزيّة لم يُنظر إليها بعمق وحساسيّة كافية.
ثم، بعد أقل من ثماني أعوام، جاءت ثورة أكتوبر في العام 1964م، ليُكتب لها فترة حياة ليست أكثر من خمس سنوات، ليأتي بعدها انقلاب عسكري آخر ضرب احلام وطموحات الشعوب السودانيّة المقهورة في مقتل. إنه انقلاب المشير جعفر نميري، وما أعقبه من تأسيسه لنظام سلطة ساقطة ومسقوطة. إنقلاب أسس نظام دكتاتوريّ(1969 – 1985) باطش رغم الهشاشة وقلة التماسك التي ظلت تتخلله طوال ستة عشر عاماً من الحُكم تأرجح بين نظام شيوعيّ اشتراكيّ في البداية، قبل أن يتغير إلى نظامٍ إسلاميّ إخوانيّ ذا أيديولوجيّة سياسيّة عنيفة ومنظور اجتماعي مؤذيّ، وانماط نظام اقتصاديّ غير مقنعة وغير منتجِة.
استمر النظام المايويّ، في قمعه وطغيانه وجوره، لأكثر من عقد ونصف قبل أن تقضي عليه ثورة نوفمبر 1985م، والتي لم تمضى هي الأخرى بعيداً – في حكومته الانتقالية بسبب التجاذبات السياسيّة الحادة التي تفاقمت دهرئذ – غير أكثر من أربعة أعوام. فإذ قضت عليها الضربة القاضية التي وجهها عليها، انقلاب الثلاثين من يونيو (1989 – 2019م). انقلاب استمر في حكم البلاد لثلاثين عاماً، ظهر خلالها أكبر ثورة تكاثر وتأسيس وانشطار للجهات الفاعلة غير الحكومية، المدنية منها والعسكريّة. ولكن الأخيرة هذه كانت الأكثر توالداً، والأشد أثراً سالباً.
النظام المايويّ؛ كم لحقبةٍ قاهرة وحشية، خلقت تحوّلات خطيرة في طبيعة الدولة وسلوكيات الأفراد وممارسات المجتمع؛ فإذ قامت الحرب الأهلية الثانية في الجنوب، والحرب الأهلية الأولى والثانية في الإقليم الغربي – دارفور، فضلاً عن حروب اقاليم النيل الأزرق وجبال النوبة، ناهيك عن جملة الفساد والانتهاكات الجسيمة كالحروب ضد أهالي الهامش السودانيّ..، والأخطاء الفاضحة كصناعة المليشيات، محاولة تطبيق مشروع الإخوان المسلمين بالقوة..، والممارسات العنيفة مثل العنف الثقافي والهيكليّ ضد إنسان اقاليم غرب السودان، كردفان والنيل الأزرق، الجهاد في الجنوب..، والقرارات المؤذية التي تخللت هذه التجربة الانقلابية كالعزلة الدولية للسودان سياسياً ودبلوماسياً، رعاية الإرهاب، والحصار الاقتصادي.
في غرب السودان – دارفور، تعتبر الفترة بين (2002–2003)، هي فترة الانتفاضة الكبرى لتناسل وانشطار حركات وتنظيمات الكفاح المسلح – وهي تكونت من المكونات والقبائل غير العربية – ضد نظام الجبهة الإسلامية – البشير. حيث تأسست “حركة تحرير السودان” التي انشطرت إلى عشرات الأجنحة، و”حركة العدل والمساواة”، وهناك العديد الأخرى؛ حركات استندت خطابها الأول على جملة مظالم سياسيّة متعلقة بالتهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للأقليم، وإقصائه عن دفاتر التنمية المتوازنة والعدالة. هي ترى هكذا حتى قبل انقلاب 30 يونيو 1989م، ولكن خلال هذا الأخير قد فاقم المسائل والقضايا بشكل أوضح وأعقد وأشد ضمن مشروعه الذي يقضي على تمكين العناصر العربية مقابل تضعييف المكونات الاجتماعيّة والاثنيات الإفريقية الزوجية، في دارفور على وجه التخصيص، في إطار مشروعها الكبير المتضمن الايدولوجيا الاسلاموعروبية التي تبناه نظام الانقلاب منذ يومها، والذي قضى على نحبه ثورة ديسمبر نهار الحادي عشر من أبريل العام 2019م بعد انتفاضة شعبية جماهيرية لأكثر من أربعة أشهر(ديسمبر2018 – أبريل 2019). ثورةٌ مجيدة شهد العالم على عظمتها، رغم قصر حياتها، التي لم تستمر لأكثر من ثلاث سنوات، توقفت جريان دماؤها بانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر م2021، قبل أن تضرب البلاد مأساة سودانيّة جديدة؛ إنها الحرب “العبثية” الدائرة حالياً؛ حرب 15 أبريل 2023م.

الخلاصة:

     وهكذا، يظهر مدى العمق اللزج الذي يتمرّغ فيه السودان منذ عقود؛ لزوجة عنف القادة والمؤثرين الاجتماعيين، والزعماء السياسيين الأوائل، ويلقبونهم بالنخب، الذي لوّث طبيعة الذات والشخصيّة السودانيّة في تربتها الذاتية، وامتيازها الأفريقي الخالص بما هو منبوذ، ومكروه، ومرفوض بالتمام وفق قيم ومعايير السياق المحليّ. عنف مركب معقّد، ممهور بعنف متعالي خلّفه عنصر خارجيّ هرب بعيداً بعد أن فعل ما فعل بهذه البلاد وإنسانه. هذا العنف باعماقه ومستواه، إنه لشيءٍ في غاية السوء والشر والخشونة، وكم أرهق الذات السودانيّة، وساهم وما يزال يسهم في عدم/ضعف بناء الدولة وتنمية المجتمع وفق الحلم السودانيّ المرتجى. كما تكشّف أيضاً مدى الخطورة العميقة التي يشكّلها وجود عدد من الجيوش، ومجموعات واسعة من المليشيات وحركات مسلحة في إطار دولة قطريّة كسودان وما يحتمل أن تنتجه من كوارث وأزمات وتعقيدات هائلة. وبالتالي يمكن أن استنتاج أن هذه اللزوجة نُسجت هكذا؛ الاستعمار خلق السودان كدولة ناشئة بحالة خلل هيكليّ وتعقيد عناصر غير متماسكة، فتالياً عقدّت النخبة – بمختلف مشاربهم وايديولوجيّاتهم وتباين أهدافهم المتناقضة – القضايا وأزّمت المسائل بممارستها العنف السياسي والاجتماعي والفكري والاقتصاديّ، بصورةٍ تكاد تكون سلوك طبيعي، الامر الذي، فتح هذا الأخير الأبوابة مشرعةً لظهور أكثر مستويات العنف خطورةً وشدةً وقسوة؛ لغة البندقيّة؛ صوت السلاح. وبالتالي جلست هذه البلاد طيلة عقود وحقب على هذه الأريكة الملوثة بهذه التركيبة المؤذية. وبالتالي فإن هذه السبيكة المركبة المتداخلة التعقيدات هي كل ما يجب مناقشتها بعمقٍ لمعالجتها بشكل حاسم لتأخذ هذه البلاد خطوات جيدة نحو السودان الحلم الذي انتظرناه طويلاً.

6 أبريل، 2024/جوبا

Translate »