محاولات تركيع إفريقيا بالحروب الناعمة (الحالة الإماراتيّة في حرب 15 أبريل في السودان نموذجاً
واجومانيوز
بقلم:محمد أبكر موسى
واجومانيوز
• تمهيد:
الصراع بين البشر؛ كأفراد ومجتمعات ودول وتحالفات، أمراً “طبيعياً”، بل يظل من أهم سمات التضافر الاجتماعي، والتدافع الثقافي والسياسي، والاقتصادي “المطلوب” في سياق السيرورة الحتميّة للتطور الإنساني، وصيرورة الإرتقاء بالبشرية نحو أفضل الخيارات للتعارف، والتعايش، والتعاون، ومستوى الإنسانيّة المنشود.
ولكن يبقي “المحك الجوهري”، أنه كيف يمكن إدارة وتوجيه وتحويل هذه الصراعات – مهما كانت طبيعتها، ومهما كانت مستوياتها، ونوعيّة نتائجها المتوقعة، ومهما تعددت أطرافها بمختلف مصالحهم المتضاربة، وتنوع أهدافهم المتناقضة – إلى حيث “ماهيّتها” المهضومة للجميع، وإلى حيث مستواها “الطبيعيّ” المقبول.
وقد خَبر العالم، منذ زمنٍ بعيد، كيف أن دولٌ تحاول باستمرار السيطرة على بعضها البعض؛ تحاول صناعة هيمنةً ونفوذاً – جزئياً أو كاملاً – على أخرى. وهذا الأمر قد حدث في مختلف بقاع الأرض على مر العصور بأشكال وأنماط ومفاهيم مختلفة؛ منها قد حدثت وأخرى ما تزال احداثها ماثلة؛ منها على شاكلة العبوديّة والاستعمار، وأخرى على نمط الغزو الثقافيّ، وثالثة على نموذج الحروب الدينيّة، ورابعة في شكل الأعمال التبشيريّة، وخامسة على أمثولة الاحتلال جزئياً كان أو كلياً، وسادسة وهلمرا في صورة أعمالٍ دبلوماسية سامة، وعلاقات تبادل تجاري وأمني غير آمن، وتضافر ثقافي ومعرفي وحضاري غير عادل.
بيد أن كل ذلك ليس بالمعلومة الجديدة مطلقاً على الجميع، ولكن يبقى الجديد حقاً أن تتحوّل لغة العالم وتتركز فقط – في محاولاتٍ وجهود مستمرة على الداوم – في خلق الصراعات، وخوض حروباً ضد بعضها البعض من وقتٍ لآخر لدواعٍ معظمها غير “أخلاقيّة/قانونيّة”، بل قد تجدها غارقة في عمق الأنانيّة، الكيد، التآمر، والمكر.
و”الحرب الناعمة” – والتي تكون قوامها القوة الناعمة بالأصالة – تظل من الظواهر التي بدأت تأخذ حيزها محورياً في جدولة قضايا العالم، بل باتت تفرض حضورها بقوةٍ على الجميع بشتى الطرق ومختلف الأسباب، في العقود الأخيرة، بعد أن أفلت نجم آخر مقولة ساخرة في دفاتير اللعبة السياسيّة العالميّة؛ “الحرب الباردة”.
• منهجيّة التناول:
في هذه المقالة، نسعى بمقاربةٍ تحليليّة نقديّة حرجة، إلى مداولة مقولة الحرب الناعمة كسرديّة حديثة نسبياً في الإستخدام الاستراتيجي والدفتر الاستخباراتيّ في الجنوب العالمي على الأقل، والتي باتت تلعب دوراً حاسماً في موازين قوى الصراعات العنيفة في العقود الأخيرة. نحاول الكشف عن بعض أوجه مخططات دولة الإمارات التوسعيّة في القارة الإفريقية خلال مؤشرات سعيها المضنيّ لخلق قوىً ناعمة بما يكفيّ عبر عدة محاور متفرقة تتنوّع بين متغير الاستثمار والدبلوماسيّة وتقاطع الايدولوجيّات؛ ولكنها بالأحرى الاستثمار السام في مناطق العنف والشدة والهشاشة في إفريقيا. نحاول فهم كيف تفكر الإمارات كدولة ووزارة وحكومة تجاه إفريقيا وكيف تخطط وتنوي حيال الثروات الهائلة التي تمتاز بها هذه القارة. نسعي بشدة من خلال عدة مؤشرات جليّة إلى استيعاب مقولة الإمارات في العمق الإفريقيّ عبر السياق السوداني بوصفه حرباً الآن.
• الحرب الناعمة؛ سرديّة مفاهيميّة:
ابسط مفهوم للحرب الناعمة، أنها حربٌ تكون قوامها القوة الناعمة/الذكية، وهي تلك القوة الذي تنتج من خلال اقتصاد المعرفة والمهارات الفنية والتقنية، واقتصاد المعلوماتيّة، وثروة الأفكار. وهي تستهدف الذاكرة المفاهيميّة والعقليّة للجهة المقصودة.
فهي حربٌ لا يُعلن عنها رسمياً. ويمكن التنصل منها. ولا تحتاج كثيراً إلى ذرائع معقدة لتسويقها أو اقناع الرأى العام بضرورة خوضها. يحدث الأمر في الغرفة المظللة، والصالات ذات الأضواء الخافتة. كما انها لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة تخلّف فجوة كبيرة في ثروة الدولة. ولأنها لا تُخاض بالأسلحة التقليديّة الصلبة، فإنها لا تخلّف خسائر مهمة في الأرواح في أغلب حالاتها. انها “حرب معنويّة/رمزيّة” تستهدف الذاكرة المفاهيميّة للمجتمع، وتعمل على شلّ الجهاز المفاهيمي والفكريّ للرأي العام المستهدف. انها تضرب في ملفات السياسات السريّة/الحساسة للدولة من خلال استخدام أدوات؛ الإنترنت، الجامعات، منجزات التكنولوجيا، الهواتف الذكية بجانب المنظمات غير الحكومية، الأجسام المدنية والطوعية، والأسواق الحُرة، ناهيك عن الناشطين الذين تزدهر انشطتهم مع بدء مشروع هذه الحرب الناعمة لهذه الدولة أو ذلك التحالف.
وفي هذا النوع من الحروب يتم أيضاً صناعة استراتيجيات “خدّاعة” مثل؛ استراتيجيّة مفاجأة النخبة، واستراتيجية بث التفرقة وشق الصفوف. أما أهم تكتيكاتها فتكون؛ الاستطلاع البحثيّ والسياسي مصاحباً له تدريب وتحريك ناشطين ومنظمات وشبكات عميلة ومعجبة بجانب اختراع شعارات ذكيّة. انها حربٌ تعمل بسياسة التدرج، والسريّة التامة، مع إثارة مقولة “الغبار السياسيّ”، والإتهام الكاذب للهدف، وبث الإشاعات والمعلومات الكاذبة والمضللة لتدمير وتفكيك قوة الهدف بصورة ناعمة. وقد ترتكز على تقاطع مصالح مشتركة مع فئة نخبة انتهازية، أو أحزاب عميلة، أو تيارات سياسيّة برغماتيّة انانيّة في بيئة الهدف.
• تحوّلات حاسمة في صفحة العالم:
أحدثت الثورة التكنولوجية تغيرات حاسمة في معظم السرديات الكبرى في الاجتماع السياسي؛ وغيرت طريقة التضافر الاجتماعي والثقاقي، وغيرت في أساليب الصراع والتنافس الشيء الكثير؛ حيث ظهرت مقولات “الحرب بالوكالة”، “الحرب الباردة”، “الحرب الناعمة”، “الحرب الرقميّة”، “الحرب الثقافيّة”، “الحروب الايدولوجيّة”، و”الحرب المعلوماتيّة”، وهملجرا. ظهرت هذه التحوّلات، ولطالما بات الجميع ينادون باحترام سيادة وحُرمة الدول فيما بينها، وضرورة صون حُرمة الآخر مهما كان مستواه التنموي في كافة المجالات.
وبفضل تضافر منجزات تلك الثورات الكبرى – الثورة التكنولوجيّة، الصناعيّة، والمعلوماتيّة – ماتت مقولات وذبلت سرديات في دوائر تلك الدوامة؛ دهاليز الحروب والصراعات، مع ظهور مقولات وسرديات أخرى جديدة تحمل مفاهيم مغايرة، وتحوى حمولات ثقافيّة متمايزة وفق تباين المجتمعات واختلاف الدول.
ومن المقولات الجديدة التي تحاول فرض حضورها بقوة في السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي على المستوى العالمي؛ مقولة “القوة الناعمة”، والتي هي من النتائج الحتميّة للحرب الناعمة”، “والحرب الذكيّة”، لطالما العالم يركض بقوة نحو مرحلة جديدة من خوض حروب وصناعة صراعات تقوم بالأساس على توفير “قوى ناعمة” كافيّة تُنتج من خلال منتجات ثورة التكنولوجيا والرقمنة، فتصبح في شكل مخزون رمزي/معنوي استراتيجيّ ضارب يمكن أن يمسح العالم بضغطة أصبع على فارة الحاسوب.
الاشتباك المعرفي الواسع، والشيوع اللافت للمعارف والعلوم بسبب ثورة الإنترنت، واصطفاف العالم بشماله وجنوبه حول منجزات الثورة التكنولوجيّة والصناعيّة، وانتشار مباديء الديمقراطيّة، وصراخ الجميع للتمسك الجاد بالقيم الإنسانيّة الكبرى والأحكام القانونيّة المتعارف عليها، بجانب التحولات الكبرى والحاسمة في سرديات عالم الاجتماع السياسي والاقتصاد، والطب، وحتى الدين، وهلمجرا.. كلها عوامل أرغمت – وبطرقٍ رمزيةٍ غير ملموسة – العالم للتحوّل من ناصيّة الحروب “الخشنة” الدموية الصلبّة، والحروب العسكريّة التقليدية، إلى عوالم “الحروب الناعمة”، و”الحروب الذكية”، والاستعداد لِحروب ما بعد الإنترنت التي بدأت علامات ظهورها تتطفو للسطح.
• جدال في مقولة الأخلاق في السياسة:
إن مسألة “بناء النفوذ والهيمنة”، ليست من الممنوعات أو الاطروحات “غير المشروعة”. يُرى أنه للجميع الحق في محاولة بناء نفسه كيفما يريد، وعلى أي مستوى يرغب، وفي أي وقت يشاء. ولكن يظل المحك الأشد والسؤال الرئيس، هو هل يتحقق هذا الإنجاز بطرق “مشروعة قانونيّة” أم لا؟. هل يقوم هذا المشروع التوسعيّ على إجراءات أخلاقيّة عادلة مسموحة قانونياً أم مستند على أعمال “خادعة”، ووسائل ملتويّة؟. هل يُنشأ وفقاً للقيم الإنسانيّة والأحكام العُرفيّة المتعارف عليها عالمياً أم يقوم على حِيل ومخططات شريرة، وأفعالٍ غير محترمة؟.
ولكن من ناصيّة أخرى، وفق وجهة نظر مغايرة، يرى بعضهم أن “السياسة” تخلو – نعم هكذا بنبرة جافة – من أي قيمة إنسانيّة، أو مباديء أخلاقيّة، أو أحكام عُرفيّة. يقولون انها مياه لا تجري إلا على أودية الكيد، والتآمر، والمكر، والدهاء.
هذا الطرح الأخير كان حيّاً وله مؤيديه وجمهوره فيما مضى من عصور وأزمان، بينما في الحال، أصبح لا ينطلي على أحد. أصبح الجميع ينادى بضرورة إلباس العمل السياسي جلابيب القيم والآداب الاخلاقيّة – لكي يكون ككل الأعمال التي تستوعب سرديات القيم والأخلاق – والأحكام القانونيّة في كل كبيرة وصغيرة، بعد أن انتشرت قيم الديمقراطية في كافة أرجاء العالم.
بات الجميع، في كل الأحوال، ينادي بمحاربة الاحتلال والاستعمار، والعبودية؛ ينادون بضرورة ممارسة القيم والاعراف الإنسانية المتعارف عليها في القوانين والمعاهدات الدوليّة، والاقليميّة وحتى المحلية؛ الجميع ينادي باحترام سيادة الدول، وحرمة المجتمعات من أي هجوم أو حرب أو غزو ناعم كان أم خشن.
ولكن هل حقاً تحترم الدول، وولا تتدخل في شؤون بعضها البعض؟. هل فعلاً القيم الإنسانية المجردة ومباديء المعاهدات مطبقة في سياسات الدول والحكومات؟. الإجابات معقدة، وغير متاحة وليس في وقت قريب. تظل مجردة تساؤلات دون إجابات محددة. أسئلة تعج بداخلها استفهامات شتى، ولكنها تبقى تطّن في مسارح اللقاءات والمؤتمرات لا غير.
• الإمارات وقواها الناعمة:
أسست الإمارات، في سبتمبر 2013، مركز “الإمارات السياسات” بمدينة أبوظبي. ويُعرف أنه “مركز تفكير، وقد ظهر أبان “الفترة التي شهدت اضطرابات ما يسمى الربيع العربي”. وقد أُسس “ليدرس مهددات الدولة الوطنية في منطقة العربية والخليجية، سواء أكانت نابعة من الداخل أو من التفاعلات الاقليمية والدولية، وليستشرف مستقبل المنطقة، وتأثير المشاريع الجيوسياسية المختلفة فيها، وليرسم خريطة توزيع القوة في العالم والمنطقة وموقع دولة الإمارات في هذه الخريطة”.
وبالتالي، من الواضح أن الإمارات التي أصبحت من أكبر الدول التي تهج بالأجانب، تسعى وبجهود كبيرة – من خلال الاستثمار والتبادل التجاري والدعم وبناء حلفاء – إلى صناعة نفوذاً عابراً للحدود. انها تسعى إلى أن تخلق لها سطوةً نافذة، وهيمنةً طاغية تناطح بها دول الشمال العالميّ على أقل تقدير، فيما تظل محاولة سيطرتها على الإقليم العربي والأفريقي والأسيوي ليست أكثر من مجرد نقرة على زر في كيبورد.
هي تسعى إلى ذلك، كيفما تقول انها تعمل على “رسم خريطة توزيع القوة في العالم والمنطقة” وموقعها هي في هذه الخريطة، وطالما كانت موجة “الربيع العربي” وما تلاها من موجات احتجاجات متواترة في أفريقيا، وبقية الاصقاع، نقطةً “فارقة وحاسمة” في سيرورة اللعبة السياسيّة بالإقليم، والمنطقة العربية، والعالم، وطالما تحاول كل دولة لملمة نفسها، وإعادة ترتيب أولوياتها لما هو آت من تحوّلات كبرى في سرديّة النظام العالمي بشماله وجنوبه. تسعى جاهدة إلى صناعة تلك القوة الناعمة، لأن الحرب الناعمة، والحرب الذكية تستهدف الذاكرة المفاهيميّة والعقلية للهدف، وتضرب الدوائر والملفات السريّة و”soft” والحساسة للجهة المقصودة. انها حروباً رمزية ناعمة قائمة بالأساس على اقتصاد المعرفة، والمعلوماتيّة.
• السودان كبوابة للمشروع الإماراتيّ:
كما الكثير من دول العالم الطامحة في بناء علاقات مع السودان للاستفادة من ضخامة موارده المتنوعة اللامحدودة والمعروفة لكل العالم، سعت دولة الإمارات العربية المتحدة أيضاً، منذ زمن ليس بالقصير، إلى خلق علاقةٍ متينة مع السودان؛ علاقةٍ ذات مساحات واسعة تتيح لها التمتع بنفوذٍ كبير في البلاد. علاقةٍ وبأي شكل وطريقة، تمّكنها من تكون السودان وبعض أبناءها العملاء لها، مدخلاً متيناً تتيح لها ولوج الأدغال الإفريقية الغنية الأخرى بكل سهولة، وسلاسة. وقد كانت الإمارات، المستثمر الخليجي الأول الذي كثيراً ما سعى نظام البشير إلى كسبه بكافة الطرق الممكنة. الأمر الذي كان من المتوقع أن يمنحها كل الإمتيازات المطلوبة سواء كانت موانيء، أو معادن كالذهب، أو طلاب جامعات، أو منظمات عميلة، أو موارد زراعيّة، وغيرها.
وبحسب تقارير بنك السودان، تبلغ قيمة إجمالي صادرات السودان إلى دولة الإمارات بنهاية عام 2022، تقدّر بحوالي ملياريَ دولار، مقابل استيراد السودان منها ما قيمته 2.3 مليار دولار من مختلف البضائع، أهمها المواد البتروليّة بقيمة 1.8 مليار دولار. ويسيطر الذهب السودانيّ الصادر، بنسبة 97 بالمئة على السوق الإماراتي. كما حققت الأخيرة مرادها بإنشاء ميناء أبو عمامة على البحر الأحمر التي جرى انتهاؤه في 2022 بقيمة 6 مليارات دولار شمال بورتسودان بالتعاون مع “انفيكتوس للاستثمار” التي يديرها رجل الأعمال السوداني أسامة داؤود.
تآمر إماراتيّ عبر مليشيا الدعم السريع:
بعد أن تأكد الجميع أن أكبر فاعل متآمر ضد السودان حكومةً وشعباً، ضد خيراتها وثرواتها المتنوعة في العقد الأخير، دولة الإمارات. تريد من السودان أن يكون المدخل السهل لمشروعها التوسعيّ الذي تسعى إليها في القارة الأفريقية. وقد ظهرت مطامعها بشكل جليّ وبصورة صارخة خلال حرب 15 أبريل التي اندلعت في السودان ومت تزال مستمرة في أهوالها. عرف الجميع أن الإمارات أهم حليف لمليشيا “الدعم السريع”، وأكبر داعم ومموّل لها في حرب هؤلاء الجنجويد ليس ضد الجيش السوداني فحسب بل ضد المجتمعات السودانيّة بأسرها.
وقد تأكد الجميع أكثر فأكثر بعدما ظهر السفاح حمدان دقلو بوصفه قائد مليشيا الجنجويد، بعد أكثر من تسعة أشهر من بدء الحرب من السياق الإماراتي. شاهده الجميع يتنقّل بكل سهولة من مطارٍ خاص إلى آخر، ومن لقاءٍ رئاسيّ إلى ثاني، ومن خلال خدمة تأمين عاليّة المستوى. وهذه السياحة قد لا تحدث إلا بمستوى عالٍ من الإعداد والتنسيق وشبكة علاقات دبلوماسية يقظة رفيعة. ولكن تظل النقطة الأهم في جولة هذا المليشيّ المرتزق، من خلال تلك الطائرة، هي أن دولة الإمارات أظهرت كل نواياها انها ليست مجرد دولة حليفة لمليشيا متمردة على دولة ذات سيادة فحسب بل انها الداعم الأول والأخير لهذه المليشيا، بكل أشكال الدعم والمساعدة والحماية.
خلال دعمها للمليشيا في حربها ضد الجميع، كانت خطتها أن تسيطر على هذه المليشيا وتقتل الجيش السوداني وتشلّها قدراتها، وبذلك تستطيع ان تصنع سيطرةً عسكريةً بجانب خلق هيمنة سياسيّة من خلال عملائها المحلييّن، وبالتالي على السودان السلامة؛ تنهب ثرواتها وخيراتها بكل سهولة، تتحكم في أصوات شعبها على الأقل إن لم تستعبده لاحقاً، ولو بطريقةٍ ناعمة. هي تخطط وتنوي لذلك، لأنها تعرف ان السيطرة على السودان تعني الكثير في مخططها التوسعيّ في القارة الأفريقية؛ السودان المفتاح نحو الولوج عميقاً في في أحشاء هذه القارة الغنية بكل أنواع الموارد تقريباً.
تجلى واضحاً أن مليشيا “الدعم السريع” تمثّل بالنسبة للامارات قيمةً اقتصاديّة كبيرة فيما يتعلق باستراتيجيتها التوسعيّة التآمرية ذات النفوذ والهيمنة في المنطقة العربية والقارة الإفريقية. وجدت هذه الدولة التي تقود “محور الشر” في الخليج، في هذه المليشيا ذوقها/مرادها في استغلالها في حروب بالوكالة، واستخدامها في حماية استثماراتها الضخمة التي أصبحت في نموٍ متزايد في أفريقيا؛ القارة الشديدة التقلبات، والمتوترة على الدوام. وبالتالي ليس من الغريب أن تجتهد وتسعى جاهدة إلى دعم وتعزيز هذه القوات سواء كانت بالتسليح، أو التدريب، أو الدعم الفني، منذ أن اصطادتها أبان مشاركة هذه المرتزقة في حرب اليمن.
ولكن بعد آخر عملية هجوم كبيرة قامت بها المليشيا وهي اجتياح ولاية الجزيرة، بدت الإمارات خائفة مرتعشة حذرة مؤخراً، بعد حدوث تحوّلات حاسمة في موازين القوى، وبعد أن أصبحت مجموعات ما تسمى “الكِسِّيبة”، قوةً يُصعب التحكم فيها؛ وهي مجموعة لصوص، حرامية، نهابة، سفاحين، سفاكين دماء، متغصبين، سُراق وأكثر، تتجمع معاً وتصاحب المليشيا في أي معركة تخوضها ضد المجتمعات السودانية قبل الجيش السوداني. انها مجموعات “عشوائيّة مرتزقة” تتجمع من مناطق مختلفة، همها الأول والأخير دخول اي معركة للنهب والسرقة فقط لا غير، كما تقول قيادة المليشيا، مع أن الأصل في مليشيا “الدعم السريع” كما شاهده الجميع، النهب والسرقة والسلب، وسفك الدماء، وانتهاك الحقوق والحرمات بأشد أنواع البطش.
ظهرت عن الإمارات في “تصرفاتها وسلوكها” مؤخراً، أنها بدت “غاضبة” من قيادة المليشيا، وبدت تعيد التفكّر بطريقة ما في توّرطها مع هذه المليشيا. بدت خائفة من أن تتحوّل إلى “مرتزقة” جديدة بأفراد جُدد، وقيادة جديدة تهتك برعايتها ودعمها لميليشيا الجنجويد. وحينها ستذهب مشروع واستثمار هذه الدولة الخليجية في هؤلاء الجنجويد أدراج الرياح.
• توغل الإمارات في الوحل الإفريقيّ:
خلال العقد الأخير، أطلقت دولة الإمارات حزمة مشروعات استثمارية ضخمة في القارة الأفريقية، والتي تسعى من خلالها إلى الدخول في حلبة التنافس العالمي المحتدم حول فرص السيطرة وصناعة النفوذ والتمتع الهيمنة. ففي غضون أعوام قصيرة، أصبحت الأسرة المالكة الاماراتيّة، تدير حوالي 12 ميناء في جميع أنحاء أفريقيا من خلال شركات مملوكة للدولة، وصارت واحدة من المستثمرين المهمين في معظم دول القارة؛ تشاد، ليبيا، اثيوبيا، اوغندا، والصومال. بل أصبحت رابع مستثمر في القارة السوداء بعد الصين، والاتحاد الاوروبي، والولايات المتحدة. وحسب تقارير رسميّة، فقد بلغت جملة استثماراتها 60 مليار دولار، وتركز أكثرها على البنية التحتية، الطاقة، النقل والخدمات اللوجستية.
ومن الملاحظ أن معظم استثمارات هذه الإمارة العربية تقع في منطقة “الهشاشة” في إفريقيا، وبالخصوص شرق القارة وخطوط القرن الأفريقي. اثيوبيا مثلاً، ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث السكان، اصبحت من أكبر معاقل الرأس المال الاستثماري الإماراتي في المجال المصرفي، والموانيء، والبترول والاتصالات. ويلاحظ أيضاً أن هذه الدولة الخليجية، تسعى وبتحركاتٍ دؤوبة إلى توسيع رقعة حزمها الاستثماريّة في أفريقيا، والتي تتسع معها بالضرورة مناطق النفوذ، بالتزامن مع سعيها إلى خلق علاقات لوجستيّة أمنية عالية المستوى لحماية ثرواتها هذه، ولو على رعايتها للإرهاب ودعم الاستبداد، ورعاية المليشيات، واستخدام مرتزقة عابرة للحدود.
ونقل صحيفة “اللوموند” الفرنسية في تقريرٍ لها، أنه وفي ديسمبر الماضي، قامت دولة الإمارات العربية المتحدة عبر شركة “بلو كاربون المحدودة” بتوقيع مذكرة تفاهم مع الحكومة الليبيرية، تمنح الدولة العربية حقوقاً حصريّة، في مليون هكتار من غابات ليبيريا، أي %10 من إجمالي مساحة الغابات في ليبيريا لمدة ثلاثين عاماً. وخلال الخمس سنوات الأخيرة، وقعت الإمارات عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع كل من؛ زيمبابوي، تنزانيا، الكاميرون، وليبيريا في عدة مجالات مختلفة. ذلك في محاولة منها لكي تصبح قوةً اقتصادية ذات اعتبار في دائرة التنافس مع دول العالم. وقوةً مهيمنة في المنطقة العربية، ناهيك عن نواياها في أن تتفوق على دول الخليج الفارسي الأخرى مثل السعودية وقطر في تنافسها في دوائر السلطة، الاقتصاد، الأمن، والطاقة في الشرق الأوسط.
وهكذا يبدو واضحاً أن الإمارات كم تستثمر في الهشاشة الإفريقية؛ السياسية منها والاقتصادية والامنية، وحتى الاجتماعية. تستثمر في تقاطع مصالحها وأهدافها مع تلك الأنظمة التي تستثمر هي أيضاً في الفساد والعنف ووالاستبداد وقمع شعوبها. انها تستغل تحالفاتها الإفريقيّة “الضعيفة” أيما استغلال للترويج للمليشيا وزعيمها، بغية أن تصب كل ذلك في مشروعها التوسعيّ الكبير العابر للحدود، والخارجة بالتأكيد عن إرادة الشعوب والمجتمعات الإفريقية، التي تستهدف حكوماتها العميلة، وأبنائها الضعفاء، ومعاييرها السهلة.
• الإمارات ومؤشرات التواطؤ الأفريقي:
خلال المدة من 27 ديسمبر 2023 وحتى 6 يناير 2024، قامت الطائرة الملكية الإماراتية RoJ10، بثماني رحلات متواصلة، ناقلة في متنها زعيم مليشيا “الدعم السريع” حمدان دقلو في أول ظهور له بعد تسعة أشهر منذ اندلاع حرب 15 أبريل في السودان، للالتقاء بعدد من الرؤساء الأفارقة أهمهم؛ كينيا، إثيوبيا، جيبوتي، جنوب أفريقيا، ورواندا. وقد مثّل ظهوره هذا، نقطةً حاسمة في التكهنات الرائجة بشأن مصيره، وحول حلفائه المحليين والاقليميين وحتى الدوليين أيضاً. وقد كانت أثيوبيا المحطة الرئيسة في جولاته تلك، والذي مكث فيها أربعة أيام متواصلة.
منذ أن ظهر في الإعلام انطلاق تلك الطائرة ذات الهوية الإماراتية، من مطار أبوظبي وهبوطها في عدة مطار إفريقية للقاء ذلك السفاح لعدد من رؤساء دول إفريقية هشة، كان ذلك مؤشراً واضحاً وصريحاً من أن الإمارات تستخدم موارداً ضخمة في الترويج للمليشيا ودعمها له، ناهيك عن توّرطها بشكل أو بآخر في هذه الحرب. وليس ذلك فحسب، بل أنها – أي الإمارات – حاولت جاهدة أن تستغل علاقاتها مع الأنظمة الافريقية القمعية المستبدة شر استغلال في عمليات دعم وتعزيز قوة هذه المليشيا في هذه الحرب الأبريليّة اللعينة.
وبالتالي تتضح جلياً بكل هذه المعطيات، أن ثمة مؤشرات واضحة، أن هناك مؤامرات محبوكة، وخطط تآمرية مرسومة بدقة ودهاء بشأن حرب 15 أبريل في السودان؛ مخططات سامة شريرة، متوّرطة فيها دولٌ إفريقيّة وعربيّة ناهيك عن حكومات دول الشمال العالمي، فضلاً عن المنظمات والهيئات والأحزاب والتحالفات المحلية والإقليمية والدولية، والشخصيات والأفراد العميلة.
وواضح جداً إن ثمة حكومات/أنظمة بعينها، غير مهتمة كثيراً بالسمعة السيئة التي تتلوّن بها مليشيا “الدعم السريع”، بجانب إفتقارها لأي رصيد أخلاقي عند السودانيين. بل تبدو المسألة أن ثمة أهدافاً ومصالحاً مشتركة – من اشعال حرب 15 أبريل وامكانية استمرارها لاطول فترة ممكنة بجانب محاولة وأد ثورة ديسمبر – قد تقاطعت في/مع هذه المليشيا الجنجويديّة المرتزقة، التي تخوض الآن ليست مجرد حرباً واحدةً ضد الجيش السوداني، إنما حروباً “عبثيّة” على عدة محاور ضد السودان بوصفها دولة ومجتمعات وأفراد.
محمد أبكر موسى
الثاني من مارس، 2024.
واو، جنوب السودان.