حرب 15 أبريل.. اشتباك نقديّ مع رأس المال الاجتماعي لِميليشيا “الدعم السريع”! 

واجومانيوز

بقلم: محمد أبكر موسى 

واجومانيوز

عتبة؛ تقليد سياسي لافت :

   من الظواهر اللافتة التي تستحق التنقيب فيها، والمثيرة للتوقف حولها، لكثرة تكرارها بإطراد في العقود الأخيرة، في دوائر “لعبة السُلطة” حتى لتكاد أن تصبح “تقليداً سياسيّاً” على مستوى العالم بشماله وجنوبه العالميين، أنه نادراً ما تحيد الأنظمة الحاكمة – سواء استولت على كرسي الحُكم بطُرق مشروعة عادلة أم بعنف البندقيّة أم بغيرهما – عن محاولة استغلال أجهزة ومؤسسات الدولة ذات الطابع العسكريّ والأمنيّ في صالحها ولتحقيق مآرب خاصة بها، وإذا ما صُعبت عليها المسألة أو كُشفت للجمهور، فتلجأ إلى الخيار الثاني، وهو صناعة أجهزة أمنيّة خاصة لها، ولو تصرف فيها وعليها كل ثروات الشعب؛ ميليشيات موازيّة لأجهزة الدولة المسلحة والأمنيّة الرسميّة كالجيش والشرطة والمخابرات.

     يحدث هذا الأمر، وإن قصرت فترة هذا النظام أو تلك الحكومة. وإن كانت الحكومة قد جاءت بإرادة الشعب إنتخابياً. وإدارة “ترامب” وهجوم عناصر تتبع للرجل على الأبيض في نهاية دورته الأخيرة، أدق مثال في هذه الناصية. بينما دراما الانقلابات العسكريّة والدستورية الناجحة منها والتي فشلت في إفريقيا وبقية الاصقاع فهي كثيرة؛ تأملها وتحدّث عنها بلا حرج، ودون سخرية بريئة.

     وقد يظهر الاختلاف بين دول الشمال والجنوب العالميّ في هذه المسألة، في نوعية “الحِيل والخِدع والتكتيكات وأساليب العمل” التي يمكن تجعل “المنتجع المصنوع” خلف الأضواء، بعيداً عن أعين الرقباء. وبالطبع تتستر بعضها في شكل حركات متمردة، أو منظمات مدنيّة، أو جماعة دينيّة، أو مجموعة مقاومة مسلحة، وغيرها، ولكن لمّا تحفر في أعماق أيدولوجياتها ومصالحها وأهدافها فستجد “قطعاً” ما ذهبنا إليه قبل قليل.

  خُذ أمثلة؛ في روسيا تجد “فاغنر”، في US وكالة (CIA، USAID) حاضرتان، في السودان في عهد النظام السابق تجد “أحزاب التوالي”، في إسرائيل ومعظم دول غرب أوروبا “اللوبيات” موجودة، فيما تجد داعش منتشرة في معظم بقاع الأرض، الأمم المتحدة بكافة وكالاتها بجانب البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي برفقة منظمة الصحة العالمية، والتجارة الدولية بالنسبة لدول الشمال العالمي الاستعمارية، وفي السودان حالياً تواجهك مجموعات شتى، ولكن أكثر مجموعة ذات لونية قبليّة مسلحة مأجورة، تحترف العنف؛ هي ميليشيا “الدعم السريع”.

  لماذا كل هذا المجهود المضيّ؟، تفعل ذلك على الأرجح، لأن تصنع لها فُرصاً واسعة للسيطرة على مقاليد السُلطة لأطول فترة ممكنة، ولو على عذابات الشعوب، ورغم عن أنفها، وخلافاً لإرادتها.

     تفعل ذلك، لأنها تدرك أن مصير بقاءها في دوائر السلطة مرهون بالتحكم في كل كبيرة وصغيرة في الدولة والمجتمع، وتلك هي “الدكتاتورية والاستبداد “. لأنها تدرك انها لن تبقى داخل تلك الدهاليز إلا إذا عملت على استغلال السلطة والنفوذ لصالحها، واستخدام كافة أدوات العنف بتنوع أشكاله، واختلاف مستوياته، وتباين نتائج أي مستوى عن الآخر لأجل تنفيذ أجندتها الذاتية، وفي سبيل تحقيق غاياتها الايدولوجية الانتهازية.

   ولكن يظل كل ما أعلاه مجرد “توهمات” وتصورات مجردة حتى تسعى أولاً وقبل كل شيء، وبكل الجهود المتوفرة مهما كانت تكلفتها، إلى خلق “فجوة” أخلاقيّة قيميّة اجتماعيّة ترتبط بالحقوق والواجبات بين الدولة ومؤسساتها من ناحيّة، وبين الدولة والمجتمع من ناحية ثانية، وبين أطياف المجتمع فيما بينها من ناحية ثالثة، وبين معايير عمل الدولة وقيم المجتمع وتقاليده وأعرافه من ناحية رابعة.

     تجتهد كثيراً، هذه الانظمة، على هذه الغاية بالتحديد، لكي يسهل لها إعادة برمجة المجتمع – جزئياً أو كلياً – على مشروعها الجديد. وفي الأثناء، تستطيع بذلك صناعة دعائم متينة تتكيء عليها من السقوط، وبناء ركائز تستند عليها من الهبوط مقروناً بالعمل على خلق مصادر القوة، وتعزيز قنوات الدعم التي يمكن أن تقيها من الإنهيار في اللحظة الحاسمة، وحينها فقط يمكنها التمتع برأس مال اجتماعيّ/رمزي وفير.

  ويبقى رأس المال الاجتماعي برمزيته النفسية القوية، وبمعنويته الاخلاقية الخارقة – سواء كان لفردٍ أو جماعةٍ أو غيرهما – من أهم مصادر القوة التي يمكن أن تعزز الرغبة في المقاومة، أو الإرادة في خوض اشتباك، أو الصمود في لحظة المواجهة. أنه القوة اللامحدودة التي لن تنضب، ولكنها حتماً ستضعف، وفي لحظة ما ستزول، متى ما انتفت شروطها وزبلت وظائف نشوئها.

  في هذه المقالة نسعى إلى خلق اشتباك نقديّ من خلال مقاربةٍ وصفيّة تحليليّة، تحفر بعمقٍ في بُؤرة رأس المال الاجتماعي/ الرمزي لميليشيا “الدعم السريع”، بغية كشف مصادر قوتها الرمزيّة، ومعرفة قنوات دعمها المعنويّة من الناصيّة الاجتماعيّة والسياسيّة، والتي “نزعم بلهجةٍ جازمة”، أن الأخيرة هي التي حفزتها للدخول في حربٍ أهليّة “عبثيّة” ليس مع الجيش فحسب إنما مع الجميع؛ حربٌ كشفت الكثير الذي كان مركوناً تحت “لحاف” النادي السياسي الجديد”؛ إنها حرب 15 أبريل، التي أكرهت الجميع للغوص في وحل الفجيعة، وللسباحة في مستنقع الدم لأجلٍ مجهول.

الأب الروحيّ لميليشيا “الدعم السريع”:

   من نافلة الكتابة، أنه يظل “قوات الدعم السريع” مشروع ميليشيا “جنجويدية” تعود أبويته التأسيسيّة إلى “النظام السابق” لتجارة العنف وإراقة الدماء، وانتهاك حقوق الضعفاء في مناطق “الهشاشة” في البلاد، واستخدامها في محاولة التصدي للمعارضة، واستغلالها بذكاء في إسكات أصوات المقاومة المدنيّة المنتفضة ضد الظلم والفساد والطغيان.

     وكان “النظام السابق” لمّا أدرك اللعبة الشائعة في تلك الحقبة، ذهب على ذات المنوال؛ لأن ترغب في البقاء على كرسي الحُكم لأطول فترة تريدها، فما عليك سوى العمل على تحيّد اغلب أجهزة الدولة ذات الطابع العسكري والأمني، عن مهنيتها لتصبح بين يديك، أو تخلق أخرى خاصة تكن كامل ولائها لك؛ ميليشيات تدافع عنك، تحميك من السقوط، ولو سقطت تحتويك من غضب الشعوب المقاوِمة الهائجة ضدك. فتالياً خرجت قوات “المراحيل، الدفاع الشعبي، الأمن الشعبي، الشرطة الشعبية، هيئة العمليات، جهاز الأمن، والاحتياطي المركزي”، وأخيراً مليشيا “الدعم السريع” التي أصبحت لاحقاً “الخنجر المسموم” في خاصرة النظام ذاته، والدولة، والمجتمع بأسره. ولكن لمّا جاءت اللحظة الحاسمة، فإن هذه المليشيا الأخيرة خانت عرّابها وذهبت لتشارك مع الجيش بخبث – ولاحقاً هما ما قاما بالتآمر على الثورة فارتكبا مجزرة فض القيادة العامة أيضاً- في إسقاطه في تلك اللحظة الحاسمة التي أعلن السودانيون فيها حقيقة سقوط “الطغاة”، وأن صلاحيتهم قد انتهت، وأن شروط بقائهم لم تعد موجودة إنما انتفت، بل لن تصمد أي شعرة تبرير لها في وجه الإرادة الشعبية الجماهيرية المتعطشة للتغيير نحو الحرية، والسلام، والعدالة.

الإدارة والقوات؛ وجهان لعملةٍ واحدة:

     جاء خروج مليشيا “الدعمالسريع” إلى دائرة العلن في أحشاء الدولة، ليس لشيءٍ سوى لاحتراف العنف، متزامناً واحتدام الصراع السياسي بين النظام والمعارضة من جهة، وبين الحكومة وبعض القبائل من جهة ثانية، وبين بعض القبائل فيما بينها من جهة ثالثة؛ حُروب”عرب – زُرقة” في الإقليم الغربي. فكان من أهداف تأسيسها مشاركتها – في الأساس –  في “وحل صراع موازين السلطة والثروة” الذي يسبح النظام وحاشيته في لجاجه، بجانب إنخراطها بشكل مكثف في بُؤر “النزاعات القبليّة” التي صنعها النظام وأججها لمجموعة أهداف أيدولوجية غائية صرفة.

     خلق النظام السابق هذا “الخنجر” ليقاتل به أعدأئه كما يراه هو، وليكمم به بجانب بقية أجهزته الأمنية “الخاصة” أفواه مناوئه، وليتصدى معارضيه بقوة. وفي الحال يعرف “الجميع” أن هذه القوات غير “شرعيّة” لإرادة المجتمع، ومشروع عنف “غير مشروع” على الإطلاق، ويدرك أيضاً أنها قوات ما كان لها أن تعيش ويستمر وجودها لولا وجود ما تسمى ب”الإدارة الأهليّة” في أحشاء الدولة، وكمْ الامتيازات التي تتمتع بها، وتستغلها بسوءٍ ماكر. إن هذه “الإدارة” وهي من بقايا الاستعمار، أخطر وأكبر أزمة ملازمة للسودان؛ كدولة ومجتمعات منذ استقلاله.

     وبشكلٍ أو بآخر، تظل “الإدارة الأهليّة” الأب الروحيّ الثاني لولادة هذه المليشيا في السياق الداخلي، بل فيما بعد أصبح بقائها مرهون برحمة هذه “الإدارة” من عدمها، وتالياً أصبحت هذه الأخيرة رأس مالها الاجتماعي المحليّ الثر الذي لا ينضب بسهولةٍ. أصبحت هذه “الإدارة” في الإقليم الغربي على وجه التحديد، حاضنتها الاجتماعية التي تصمد بها من الزوال، بل غدت بالنسبة لها بمثابة “الهواء” الذي تتنفس به. وما عمليات التجنيد، الاستنفار سوى ظلال عملية التماهي التي تحدث بين هذي “القوات” وهذه “الإدارة” حتى ليكاد أن يصبحان وجهان لعملةٍ واحدة لكثافة وشدة توّرطهما في متاهة “العنف وسفك الدماء وإنتهاك الحقوق والحرمات” بشتى أنواع التآمر، وبمختلف أشكال “الخبث والكيد” على طول وعرض البلاد.

استثمار في الهشاشة:

     كما استفاد “النظام السابق” كثيراً من وجود “الإدارة الأهليّة” بين أجهزة الدولة، من خلال استغلالها في تحقيق أهدافه الخاصة، واستخدامها وفق مصالحه ومشاريعه التي كانت أكثرها ضد إرادة الشعوب السودانيّة، وفي غير مصلحتها، استثمرت ميليشيا “الدعم السريع” كذلك، منذ دوي ميلادها في هذه “الإدارة” السهلة، مستفيداً من “الهشاشة الاجتماعية والثقافيّة” التي تعيشها القبائل، وترزح معظم الإثنيات إن لم يكن كلها تحتها في الإقليم الغربي، بل في البلاد بكاملها.

     استغلت هذه المليشيا بمباركة عرّافها – النظام السابق بحاشيته – ضعف الإدارات العُرفيّة الأهليّة للقبائل والمجموعات الاثنيّة شر استغلال، والتي تم استعابها في السابق من قِبل “النظام السابق” في “دوائر الفساد والعنف والدم”، فقامت باحتواء قياداتها – بكل سهولةٍ – بالمال، وبمنحها امتيازات وهميّة زائلة، لكي تظل تضخ دماء “بقائها” فيها، وفي الأجيال الحالمة في غير العنف.

     مع مرور الأيام، وبتضافر عدة عوامل خلقت هذه المليشيا – تدريجياً – سلطتها “الخاصة” في أقل من عقد؛ من مجرد ميليشيا مسلحة صغيرة لا تكاد تعرف الحبو، إلى “قوات” تكاد أن تضاهي الجيش السوداني في قيادته، وقوته، وعتاده. وهو الأمر الذي يشير إلى أنه، ليس من الغريب أن تدخل هذه المليشيا مع الأخيرة في “صدام مسلح” بسبب جملة مسببات متنافرة، وأهداف متضاربة، ومبررات متناقضة،  وأصحاب  مصلحة كُثر.

     متى أصبحت هذه الميليشيا ذات سلطة ونفوذ ورأس مال رمزي؟. أزعم أن الإجابة الراجحة؛ عندما أصبحت تتمتع بالقدرة على التأثير في “الإدارة الأهليّة” أولاً، باعتبارها لاعبٌ أساسي، وعنصرٌ رئيسي مهم من عناصر “توازن القوى” في اللعبة السياسيّة، في أيما نظام أو حكومة تأتي وتذهب منذ استقلال البلاد من نير الاستعمار في 1956م.

     وجدت هذه المليشيا ضالتها في هذه “الإدارة الأهليّة” التي لطالما ظلت تحترف “لعبة ازدواجية المعايير”، فاستثمرت فيها خير استثمار اجتماعيّ سياسي لدرجة أن أصبحت تسيطر عليها، وتملي عليها ما تريد، بل أصبحت تتحكم في تحركاتها وسكناتها في السنوات الأخيرة في أغلب المناطق. فمن خلال هذه “السيولة الأهليّة السهلة” استطاعت السيطرة على الكثير، ومكّنها على الاستمرارية في التجنيد من خلال بيع وشراء رقاب الأجيال الناشئة دون وعي بل بإكراهٍ وجهل تام. كما أن ذلك سهّل لها فرص التدخّل بصوت عالٍ جهور في أي صراع موازين السلطة، أو نزاعات الجذور والأصول في الآونة الاخيرة، ومكّنها أيضاً على بناء “نفوذ متمدد وعابر” للخطوط الحمراء في دوائر السلطة في الداخل؛ كما ظهر منذ سقوط النظام السابق حتى إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021؛ إذ دخلت – بمباركة قيادة الجيش- دهاليز اللعبة السياسيّة من أوسع أبوابها وبفرصةٍ ذهبية لن تتكرر، وفي الخارج؛ كما تجلت في سياق المؤثر الخارجيّ – محور الشر الخليجي، روسيا، US، وبعض الدول الأفريقية المخدوعة باجندة النيوكولونيالية، والتي قامت باستقبال ظلال رأس الجنجويد كرجل دولة الذي قد يُشعره بأهمية زائفة وقوة مؤقتة – الذي يحاول أن يتسغل هذه المليشيا لتحقيق سيطرة كاملة، وهيمنة تامة على السودان بمعايير الاستعمار الجديد، ومصالحه العابرة لشعوب الجنوب العالمي.

مصالح متضاربة في التآمر:

     تمددت دائرة مصادر رأس المال الاجتماعي/الرمزي أكثر فأكثر – باستصحاب سياق المؤثر الخارجيّ والإدارة الأهلية قبلاً – لهذه المليشيا عندما حاولت بعض “الأحزاب والتنظيمات السياسيّة الإنتهازيّة” الاستثمار فيها أيضاً، وخير مثال صارخ، عندما يحاول تحالف الحرية والتغيير – المركزي، وما يزال أن يخلّق له منها “جناح عسكريّ” يناكف بها الجيش في ثكناته، ويسيطر على مقاليد السُلطة من جديد وبشروط جديدة، وما إعلان أديس أبابا  بين “تقدم” و”المليشيا” سوى خيط رفيع لمشروعهم “المدنيّ الجديد” الذي يسعون إليه في خفاء.

     يريد “النادي السياسيّ الجديد” بمختلف أطيافهم، وتنوع مسمياتهم، أن يخلقوا منها قوةً ضاربة تصارع بها الجيش، ويوأدون بها “ثورة ديسمبر المجيدة”، ويقتلون أحلام أجيال الأنترنت وما بعده. أنهم يبغون حرباً بين قوتين مسلحتين منذ زمنٍ، فها البلاد كلها الآن ترزح تحت لهيب البندقيّة، والدم يزين كل بيت، كل زقاق، كل ساحة. يحاولون بشتى الطرق الاستثمار في هؤلاء الجنجويد، بينما تخطط المليشيا هي الأخرى بخبث ودهاء كما تتخيل – لا أدري إن هم يدركون أم لا –  لأن يصبح “التحالف والنادي لاحقاً” بالنسبة لها “الجناح المدنيّ” في مشروعها “الكبير الوهميّ” لبناء إمبراطورية عنف نافذة عابرة للقانون.

     ما الذي أغراهم في هذه الميليشيا؟، إنهم يا سادة، تلكم البشر، وجدوا في هؤلاء “الجنجويد” القوة العسكريّة الضاربة بجانب الخلفيّة الاثنيّة لقيادتها التي لها باع واسع في ممارسة العنف، واحتراف إراقة الدماء وإنتهاك الحقوق في الإقليم الغربي. فوق ذلك أنها تتمتع بمصادر اقتصاديّة مهولة تحتكرها لوحدها، ناهيك عن الرأس المال الاجتماعي الذي شكلته من سيولة “الإدارة الأهليّة” وسهولتها، رغم إدراكهم “الكامل” عوز هذه الميليشيا كثيراً إلى القدرات الشخصيّة والمعرفيّة والمهنيّة لقياداتها وجنودها على السواء. بل أنها كم تفتقر إلى – والجميع يعرف ذلك – أي وازع أخلاقي قيميّ سواء لقياداتها أو للقوات ذاتها لكتلة مسلحة، هذا ناهيك عن إنعدامها كلياً لأي عقيدة عسكريّة محترمة مقنعة.

ظلال وفرص التحوّل:

    في الخلاصة، يمكن القول أن ميليشيا “الدعم السريع” تستند بشكل أساسيّ في توّرطها في الحرب الحاليّة مع الجيش، بل مع الجميع، على ثلاث ركائز رئيسة، وهي تعتبر مصادر قوتها، وأعمدة بقائها –  معنوياً/رمزياً، ونفسياً – من موتها وهي: سيولة الإدارة الأهليّة، خبث ومكر التنظيمات السياسيّة، وتآمر المؤثر الخارجيّ بمختلف أيدولوجياته، وتمايز مصالحه، وتباين وسائله، وتباعد جغرافياته.

     في أي سلطة لاصحابها دائماً، مصالح مختلفة، ودوافع متباينة، وأهداف متمايزة يمكن أن تُستغل، وتُسثمر فيها، لتقليصها أو إضعافها، لإنهائها – جزئياً أو كلياً – لإحداث تحوّلات حاسمة في طبيعة الصراع.

     وبالتالي هل يمكن أن يتحوّل الصراع وتتغير موازينه كلياً فقط إذا فقط هكذا حُفر عميقاً في وحل الفراغ الذي تتمرّخ فيه أطرافها جميعاً؟. وهل يمكن أن تتحوّل هذه الحرب الدائرة الآن في السودان، إذا ما تم الاستثمار – بمعنى تلقيصها وإضعافها – في رأس المال الاجتماعي، وركائز الدعم الرئيسة لميليشيا “الدعم السريع”؟. وعلى العكس تماماً، ماذا سيحدث إذا تم التنقيب في الناصيّة الأخرى؛ الحفر سلبياً، في أعمدة بقاء الجيش، والاستثمار تلقيصاً في مصادر قوته، والشروع في إضعاف رؤوس ماله الرمزي والمادي والاجتماعي؟.

     اعتقد أنه اذا ما حدث أيما الخيارات أعلاه، فبالتأكيد سيسمح لنا الناتج الجديد بأن نعاين المشهد بوضوحٍ كامل، وسندرك الصورة الكليّة للحدث بشكل مُغاير، وحينها فقط سيحدث التحوّل الذي سيغيّر الواقع إلى مشهد جديد مختلف.

 

الأول من فبراير، 2024.

واو، جنوب السودان.

Translate »