هل توجد طبقات اجتماعية في السودان الجنوبي؟
بقلم : سنكارا دينق كوج
انه سؤال مهم ويبدو في نفس الوقت موضوع جديد و ويحتاج لإجراء بحوث اكثر لمعرفة التركيب الاجتماعي الحديث لمجتمع جنوب السودان ، ومعرفة علاقات الانتاج والقوى المنتجة داخل الدولة. وما إذا كان تلك العلاقات (الانتاج), علاقات تضامن وتعاضد ام انها علاقات قائمة على منهج استغلال الانسان لاخيه الانسان اي بمعنى اخر علاقة بين قامعين ومقموعين.
ان دولة جنوب السودان الخالي بولاياتها العشرة وادارياتها الثلاث ، يعد تاريخيا مجتمع ريفي قبل تقسيم السودان الى دولتين ، وفي ظل الحكم التركي المصري, المهدية, والحكم الانجليزي المصري , إذ كان جنوب السودان عبارة عن مجتمع ريفي ، اساس اقتصاده هو الزراعة التقليدية ورعي الابقار والاغنام .ولكن في فترة الاستعمار تم فتح مدارس كنسية في المديريات الجنوبية انذاك وتخرج في تلك المدارس حاملي الشهادات الاولية وتم توظيفهم ككتبة في الدوائر الحكومية المدنية ، والبعض منهم في المؤسسات العسكرية والشرطة وهؤلاء الموظفين الصغار شكلوا النواة الاولى للطبقة البرجوازية في جنوب السودان .وهولاء خرجوا من طبقتهم الاصلية اي طبقة الفلاحين والرعاة والصيادين.
ففي فترة اتفاقية اديس ابابا 1972م نمت تلك النواة وانضم اليها خريجي جامعة الخرطوم والجامعات الاخرى ، ومن ثم لاحقا بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل 2005م وعلان استقلال جنوب السودان في يوليو 2011م تجلى التقسيم الاجتماعي للمجتمع بصورة اكثر وضوحا ، ويمكن ان نقول بان في دولة السودان الجنوبي ثلاثة طبقات اجتماعية وهي: الطبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة, طبقة العمال والطبقة الفلاحية، وتستقر الطبقتين الاولتين في العاصمة القومية والولايات ، وهي المسيطرة على السلطة وكل انواع الرساميل سواء راس المال التجاري, او راس المال العقاري, و راس المال المالي(البنوك) وراس المال الاستثماري ، اما الطبقة الاخيرة ففتواجد في الريف ، وهي التي تشكل الشريحة الاجتماعية الاكبر في الدولة.
في تاريخ البشرية دائما تمتاز الطبقة البرجوازية بميزة وهي وجود ايديلوجيتها الفكرية للسيطرة على مقاليد السلطة والحكم والثروة اذن ماهي ايدلوجية الطبقة البرجوازية السودانية الجنوبية؟
تبنت البرجوازية الجنوبية قبل تفكيك وحدة التركيبة السودانية ، ايدلوجية العنصرية (العنصر الاسود) اي الافريقي المسيحي في مواجهة عنصرية( اسلامو عربية) ، ولقد قدم الشهيد جوزيف قرنق في ستينات القرن الماضي في كتابه المعنون بمازق المثقف الجنوبي هل من مبرر له؟ في هذا الكتيب قسم قرنق الحركة السياسية الجنوبية الى ثلاثة مدارس فكرية وهم مدرسة اقصى اليمين, والمشوشين واليسار .ولكن ظلت مدرسة اقصى اليمين اي الايدلوجية العنصرية وبصورة ادق مدرسة الايدلوجية القومية الجنوبية، وهي المهيمن الوحيد على الحركة السياسية السودانية الجنوبية ، وتلك المدرسة الفكرية بقيادة طبقتها كونت احزاب يمينية قبل الاستقلال مثل حزب الاحرار, الحزب الفيدرالي وبعض قادة تلك الاحزاب قادوا التمرد الاول تحت اسماء مختلفة ، ابتداءا من اتحاد المناطق المقفولة ، مرورا بسانو وانتهاءا بحركة تحرير جنوب السودان التي وقعت اتفاقية اديس ابابا عام 1972م وقد اعطت ابك الاتفافية الجنوب حكم ذاتي مزيف ، وحكمت الطبقة البرجوازية الاقليم الجنوبي وفقا للايدلوجية القومية الجنوبية اي الايدلوجية العنصرية( اسود افريقي مسيحي) ولكن نشب صراع داخل هذه الطبقة حول السلطة والموارد بينهم ، وبداوا في تكوين وخلق ايدلوجيات جديدة بغرض الهيمنة على السلطة والموارد على سبيل مثال القومية النيلية (جينقسم شلوسيم ونورسيم) واكتورانسيم اي بمعني اخر ظهرت ايدلوجيات الاثنية ، لتحل محل مكان القومية الجنوبية ، هذا الصراع داخل الطبقة البرجوازية الجنوبية ادى الى تقسيم الجنوب الى ثلاثة مديريات من قبل الرئيس السابق جعفر محمد نميري و كان هذا خرق للاتفاقية مما قاد بعض المنتمين لهذه الطبقة الى تاسيس الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الشهيد الدكتور قرنق ، وقد تبنت الحركة الاتجاه اليساري وتلك في تقديري كانت نقلة نوعية وفريدة داخل الطبقة البرجوازية الجنوبية ، الا ان القوميين الاثنيين كان لهم وجود تحت غطاء ايدلوجيتهم القديمة وهي القومية الجنوبية ،وبعد وفاة قائد الثورة الشهيد الدكتور جونق قرنق تولى القوميين الاثنيين بمعني ادق وليس القوميين الجنوبيين مقاليد الحكم في جنوب وفق اتفاقية السلام الشامل وظلت الطبقة البرجوازية في تحالف قائم على الايدلوجيات الاثنية حتى الاستقلال ، وبعد الاستقلال اشتد الصراع مرة اخرى كما في عهد اتفاقية اديس ابابا وظهرت الايدلوجية (الجينقوية) (نسبة للمونجانق ااي الدينكا) الاثنية علنا وكذلك (النويرانية ) نسبة لمجموعة النوير) و(اللواسسم )نسبة لمجموعة اللوا و(اكتورانسيم) نسبة للمجموعة المقيمة في المنطقة الاستوائية، في صراع على السلطة والموارد.
ان الايدلوجية الاثنية (الجينقوية) استطاعت ان تسيطر على مقاليد الحكم عن طريق الارث النضالي لشعب السودان الجنوبي وظلت الايدلوجيات الاثنية الاخرى في المعارضة ولان معظمهم ممثل في حكومة الوحدة الوطنية واقلية في المعارضة ، وبمعني ادق ان الطبقة البرجوازية السودانية الجنوبية وصلت الى الحد الادنى لتقاسم السلطة والثروة بينهم ، الا انهم كطبقة برجوازية حاكمة ليس لديها اي مشروع وطني لبناء الدولة قائم على اساس المواطنة في اطار التنوع الاثني والجغرافي والتوزيع العادل للسلطة والثروة ، والمعروف تاريخيا ان اي طبقة البرجوازية الراسمالية غالبما تكون هدفها الاساسي هو السيطرة على جهاز الدولة ونهب ثروات الشعب، ليزداود غنى بينما تزداد الطبقة العاملة والفلاحين فقرا على فقرهم ، لان هدفهم الازلي هو تراكم المال في ظل مشروعهم الاقتصادي الراسمالي الطفيلي.
دعونا نعود لنقطة اخرى وهي موضوع علاقات الانتاج بين الطبقة البرجوازية الحاكمة وطبقة العمال والطبقة الفلاحين، لنعرف ما اذا كانت علاقات قائمة على التعاضد والتعاون والتضامن ام على اساس الاستغلال اي انها علاقة بين قامعين ومقموعين؟ ، ان الاجابة على هذا السؤال لا تحتاج الى جهد كبير وكلنا متابعين للواقع الاقتصادي والسياسي في ظل الست سنوات التي مثلت عمر الفترة الانتقالية ، والتسع سنوات التي تلتها من عمر الاستقلال والتي تبين بوضوح و دون لبس وخداع ونفاق ان علاقات الانتاج بين البرجوازية الحاكمة والطبقات الاخرى هي علاقات استغلال الانسان لاخيه الانسان وهذا الاستغلال اتخذ وجهين,هما الاستغلال الاقتصادي والاستغلال السياسي فمثلا نجد ان الطبقة العاملة سواء كانت في مؤسسات الدولة او في القطاع الخاص فان ثمن اجرهم لايساوي كمية العمل الذين يبيعونه مقابل ذلك الاجر فالعمال بشقيهم الذهني والعضلي في جنوب السودان يعيشون في واقع اقتصادي مزري واخاف اذا سميتهم في وضعهم الحالي بالاقنان في عهد الاقطاع في القرن الرابع والخامس عشر في اوربا كذلك الفلاحين في مناطقهم الريفية لا يحصلون على خدمات الدولة ، اضف الى ذلك فان المناطق الريفية المنتجة للنفط تعد من اكثر المناطق فقرا وثروتهم النفطية تنهبها البرجوازية الحاكمة ، هذا هو الاستغلال الاقتصادي ، اما الاستغلال السياسي فان الطبقة البرجوازية الحاكمة افرزت سموم ايدلوجياتها الاثنية في صفوف الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين لتضمن بقائها في السلطة ، وللاسف معظم افراد العمال الذهنيين انخدعوا بلا وعي وامنوا بتلك الايدلوجيات الاثنية الزائفة. فتجد عامل مثقف ومستنير يدافع عن براجوزي في السلطة فقط لانه من اثنيته او عشيرته ، مؤمنا بان الصراع ماهو الا صراع بين الاثنيات ، وما لا يعرفه ان هذا الصراع هو صراع داخل طبقة واحدة اي الطبقة البرجوازية وهدفها الاول هو الحفاظ على كراسيهم ، والهدف الثاني هو صرف نضال العاملين والفلاحين عن حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
على ضوء ماتقدم فان السودان الجنوبي في حاجة حقيقية الى مثقيين ثوريين وديمقراطيين في نفس الوقت ليقوموا بمهام تنوير المجتمع بكامل طبقاته وفضح ايدلوجيات البرجوازية الراسمالية الطفيلية التابعة، وبناء مجتمع جديد متسامح في اطار التنوع، وبناء علاقات التضامن وتعاون بين مكونات دولة جنوب السودان.