المشاركة في المأتم مابين البروتكولات والبرستيج
واجومانيوز
بقلم: المحامي/فاولينو أكانج
واجومانيوز
إن مجتمعات جنوب السودان لديهم عادات وتقاليد وسُنن جميلة وسهلة التطبيق وجلها صالحة لكل الأجيال، إلا أننا إذا سألنا أنفسنا من أين أتت عادة الثرثرة والإطناب والحديث الفاسد في المناسبات الإجتماعية خاصة مراسم الصلاة على أرواح الموتى؟
المتابع الحذق لمجريات التاريخ يدرك أن هناك وباءاً أصابت العادات والتقاليد والأعراف الجنوبية بمختلف أثنياتها، ونجد أن عادة الحديث في سرادق (العزاء) وصلاة الموتى وجدت طريقها معبداً إلى المجتمع الجنوبي، ولاحت تلك العادة في الأفق في مطلع الألفية الحادي وعشرون تقريباً عقب توقيع إتفاقية السلام الشامل في عام ٢٠٠٥م، وقبلها لم نكن نشاهد المناسبات بهذا الزخم “البروتوكول والبرستيج” حيث أصبحت الموت بدعة إجتماعية ومجلساً للحديث وإصدار الفتاوي، فصار الناس يعملون على تعزيز تلك العادة الضارة إبتداء بصلاة الجنازة وصلاة الدفن وسهرة الليلة التي تسبق الصلاة الأخيرة ثم الصلوات الأخيرة ومنها الأربعين والسنوية، فهي في تقديري نوع من إستعراض وإبراز الإمكانيات المادية لأسرة المتوفي ومركزه الإجتماعي أو السياسي.
عمل الناس بكل الطُرق لتعزيز وتثبيت تلك العادة في المجتمع وكثرت أساليبها وفنونها، إذا كان المتوفي شخصاً ذو شأن في السياسة أو المجتمع أو ثرياً، فيبدو الناس كأنهم ينتظرون موته بعجل فيعدون له العُدة ويجهزون برقيات تعزية وصور فإذا كان مريضاً، يتابعون حالة المريض الصحية عن كثب وعند رحلة الإستشفاء إلى الخارج يلتقطون صوراً وفيديوهات مع المريض وإجباره بالنظر إلى عدسة الكاميرة وهو على فراش الموت إستعدادا لنشر تلك الصور فور سماع نبأ وفاة المريض بثوان قليلة، و يذهب البعض إلي أبعض من ذلك ويقومون بإلتقاط صورة مع جثمان المرحوم ويتسابقون في نشرها علي منصات التواصل الإجتماعي.
العديد من المدونين ينشرون نبأ الوفاة على الملا دون إنتظار أوتريث للتاكد او لمنح الأسرة الفرصة كافية لاكتمال الترتيبات اللازمة داخل دائرة الأسرة من المشاورات وكيفية توصيل النبأ الأليم إلى أقارب المتوفي وطريقة إعلان الوفاة بعد أخذ كافة الإحتياطات اللازمة وتخفيف صدمة الخبر على القريبين من المتوفي.
وأثناء المأتم قد تتعجب من النساء والشابات، حيث يقمن بشراء عبايات وجلاليب جديدة وأخر إطلالات الموضة التصميم بمبالغ مالية باهظة باللون الأسود الداكن لحضور مراسم الدفن، وهناك ايضا عادات شائعة وسط النساء بإبتداع مُشاط، مناكير وحناء العزاء، حتي بات عدم تكرار العباية في مراسم الجنازة شائعة شأنها كشأن فساتين الافراح فكل عزاء يتطلب عباية جديدة مميزة، فبات العديد منهن لديهن رفوف خاصة في الدولاب بعبايات البكاء، والشباب أصحاب البدل والنظارات السوداء الجذابة،
فالأسر أيضاً وبحسب الوضع الإجتماعي باتوا يختارون التابوت ولونها بعناية فائقة وإختيار ساحات وميادين واسعة قد تبعد أميال من منزل الأسرة لإقامة مراسم الصلوات الختامية. واضف الي ذلك قتال اعضاء اللجان في مآتم ذوي اللياقات البيضاء وميسوري الحال، أصبحت تكاليف إقامة المأتم أضعاف تكاليف مراسم الأفراح.
وبعد الدفن و إعلان تاريخ إقامة الصلوات الأخيرة على روح المتوفي، يهرول الناس مسرعين إلى بيت العزاء ومعهم مظروف بها حفنة من النقود لكسب ود الأسرة وإظهار نوع من التعاطف، علما بأنهم لم يقدموا ولا فلساً واحداً من النقود أودعما معنوياً أو عينيا للمريض عندما كان يصارع السقم وطريح الفراش متمسكا بخيط رفيع من الأمل في الحياة، وكان بالإمكان إنقاذ حياته بقارورة دم أو دفع ثمن فاتورتها دواء بمبلغ ١٠٠٠ ج ج س او مايعادل ١ دولار أمريكي، وبعد الوفاة تجد دفتراً أو كراسة خصصت للتبرعات ودعم الصلوات فيقوم الناس بتدوين أسماءهم بخطوط يدوية عربية أنيقة وأنجليزية بحروفها الكبيرة والصغيرة بكل ثقة دون خجل قصادها المبلغ المدفوع وهنا يأتي الدستورين أو كما يطلق عليهم الشخصيات المهمة حسب فهمهم يقومون بحجز المقاعد الأمامية مطبقين أبجديات البرتكولات الرسمية بحذافيرها، متوقعين إدراج أسماءهم ضمن قائمة المتحدثين، فإذا سُمح لهم بالحديث وتقديم التعزية يتحدثون ويثرثرون عن نفسهم وإنجازاتهم الشخصية وقضايا أخرى لا صلة لها بالشخص المتوفي او تخفف من حزن الأسرة علي فقدهم، و أكثر ما يثير الإستغراب هو عدم معرفة المُتحدث بتفاصيل حياة المرحوم من الأحداث أو المواقف أو إسم المرحوم، لكن بكل بجاحة وإفتخار وعز النفس كأنه المتوفي، فلايكلفون أنفسهم بالإطلاع على ورقة السيرة الذاتية التي تنشر دائما أثناء الصلاة وفي بعض الأحيان يلفقون إتهامات لبعضهم البعض سياسيا وقد تصل إلى المشاجرة أو الخصام، فيصاب الحضور الذين أصبحوا رهائن تحت الخيمة بذهول على سماع هرطقاتهم بالضجر والملل والفتور.
يبدأون بتحايا الإحترام والبرتكولات المحفوظة، وهم حريصون على تطبيق البرتكولات الرسمية في تحية الحضور أكثر من تعزية الأسرة.
سرادق العزاء أصبحت منابر للتبجح والتباهي حيث تم تفريغها عن معانيها وبأت هناك إندثار للعادات وقيم المجتمع في إكرام وإحترام المتوفى وسلب كرامته.
في تقديري يجب إن نكتفي بالجزئية المتعلقة بالصلاة والوعظ فقط فهي الاهم لأن الدين ملاذ للقيم الأخلاقية والايمان وبها أيات وكلمات تعزية تلمس وتصبر الأسرة الملكومة ويخفف عليهم ألم الفراق، وحتى لا يتحول مناسبات الأتراح إلى منابر تثار فيها الخلافات بين أطياف المجتمع، وأرضية خصبة لزرع الفتن التى قد تكون وصمة عار على أهل المتوفى، ويُكتب التاريخ على أن صلوات ناس فلان وعلان هي سبب الشقاق والخلاف الحاصل بين فلان وعلان، فعلى الأسر واللجان المنظمة منع وعدم إدراج أسماء من ليس لهم صلة أو معرفة بالمرحوم، فإن كلمة الترحيب والشكر يكفي إحتراما لطبيعة المناسبة.
اللهم اني بلغت فاشهد.
buakany@gmail.com