السُّودان على طريق المصالحة (1/2)

واجوما نيوز

تأليف
محمد الحسن ولد لبات
***
عرض وتحليل
د.أحمد إبراهيم أبوشوك،

أستاذ التاريخ جامعة قطر

أصدر المركز الثقافي للنشر والتوزيع ببيروت (2020) كتاب البروفيسور محمد الحسن ولد لبات، الموسوم بـ “السُّودان على طريق المصالحة”، في 424 صفحة من القطع المتوسط. استهلها المؤلف بإهداء إلى “تلاميذ الأُبَيِّض الذين هُدرت دماؤهم الطاهرة، وأُزهقت أرواحهم الزكية في مسيرة سليمة … على طريق المصالحة والسلام”، وأعقب ذلك بشكرٍ وعرفانٍ للذين ساعدوه في انجاز مأموريته التفاوضية في السُّودان، ثم تقديم للكتاب أعدَّه البروفيسور عمر كوناري، رئيس جمهورية مالي (1992-2002)، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي الاسبق. عرض ولد لبات شهادته عن المفاوضات السُّودانية التي جرت بين أطراف “الثنائية المقدسة” (المجلس-الإعلان) في خمسة فصول رئيسة، حملت العناوين الآتية: سياق الوساطة (ص: 21-58)؛ إنضاج الوساطة (ص: 59-102)؛ مسارات الوساطة (ص: 103-254)؛ تحديات المرحلة الانتقالية (ص: 255-380)؛ تساؤلات حول المستقبل (ص: 381-423). ويلحظ القارئ المتبصر في ثنايا شهادة ولد لبات أنها تختلف من حيث المنهج والمحتوى عن شهادة الجنرال لازروس سمبيو، الكيني، الذي كان وسيطاً في مفاوضات السلام الشامل بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السُّودان، ووثق شهادته في كتاب صدر باللغة الإنجليزية بعنوان “الوسيط”، وكذلك عن شهادة هيلْدا جونسون، النرويجية، التي وثقت لدورها في مفاوضات السلام الشامل في كتاب صدر باللغة الإنجليزية، بعنوان “بسط السلام في السُّودان: قصتي مع مفاوضات أطول حروب إفريقيا.” يقودنا هذا الاختلاف بين شهادات سمبيو وجونسون وولد لبات إلى الاستفسار عن الكسب المعرفي والخبرة العلمية التي استند إليها ولد لبات ليكون وسيطاً ناجحاً في قضية تختلف في طبيعتها عن مفاوضات السلام الشامل، وإن تقاطعت معها في بعض المسائل الإجرائية. وتدفعنا العلاقة الإجرائية إلى التساؤل عن المنهج الذي استخدمه ولد لبات في تحديد مسارات المفاوضات الثنائية (المجلس-الإعلان) التي تبلورت خواتيمها في الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م؛ وعن الطبيعة الدور الذي قام صاحب الشهادة في ضوء تكليف الاتحاد الإفريقي؛ وإلى أي مدى تُعتبر شهادته مفيدة للفاعلين السياسيين، ولمستقبل الانتقال الديمقراطي في السُّودان؟

محمد الحسن ولد لبات: الخلفية الأكاديمية والخبرة العملية
محمد الحسن ولد لبات، أكاديمي ودبلوماسي موريتاني، وُلد في ضواحي مدينة “واد الناقة”، التي تقع في جنوب-غربي موريتانيا، وتبعد 50 كيلومتراً إلى الشرق من العاصمة نواكشوط. نال درجة الدكتوراه في القانون الخاص في جامعة «تولوز» الفرنسية، وبعدها عمل أستاذاً للقانون بجامعة نواكشوط، ثم عميداً لكلية العلوم القانونية والاقتصادية، ثم رئيساً للجامعة نفسها. وفي مجال العمل الدبلوماسي شغل منصب وزير خارجية موريتانيا (1997-1998م)، ثم سفيرها لدى أثيوبيا وممثلها الدائم في الاتحاد الإفريقي (2003-2005م)، وكذلك سفيرها لدى جمهورية جنوب إفريقيا (2005-2007م). وبعدها انتقل للعمل في المنظمة الدولية للفرنكوفونية في باريس، ثم الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، حيث كُلف مع نخبة من حكماء إفريقيا أمثال نيلسون مانديلا (جنوب إفريقيا)، وجوليوس نييري (تنزانيا) وكاتميلي ماسيري (بوتسوانا) بالتوسط في تسوية العديد من ملفات النزاع الشائكة في بوروندي (1998-2000م)، وتشاد (2008م)، وجمهورية الكنغو الديمقراطية (2011-2013م)، وإفريقيا الوسطى (2016).
ويبدو أن هذه المؤهلات الأكاديمية والخبرة العملية في تسوية النزاعات الإفريقية قد دفعت السيد موسى فكي محمد، رئيس المفوضية الإفريقية، إلى تكليفه “بريادة جهود الاتحاد الإفريقي في السُّودان، بهدف تنفيذ قرار مجلس السلم والأمن”، لاتخاذ “التدابير اللازمة للوصول إلى اتفاق بين جميع الفرقاء السياسيين والاجتماعيين؛ لإقامة نظام انتقالي يتولى فيه المدنيون سدة الحكم.” وبناءً على ذلك أقترح ولد لبات على إدارة المفوضية الإفريقية ألا تسميه “وسيطاً أو مسهلاً”؛ لأن “الوسيط أو المسهل ينبغي أن يختاره الأطراف، أو على الأقل يقترحونه”، بل يكون عنوان مهمته “رئيس فريق الاتحاد الإفريقي المكلف بتنفيذ القرار الصادر من مجلس الأمن والسلم”. وفور وصوله إلى الخرطوم في 28 أبريل 2019م، شعر ولد لبات أنَّ صورة الاتحاد الإفريقي كانت ضبابية في نظر الشارع السُّوداني، وذلك بحكم أداء ممثليه غير المرضي في دارفور، واتهام بعض موظفيه بتعاطفهم في نظام البشير، والتشكيك في حياد رئاسته الدورية التي تتولاها جمهورية مصر العربية. لكن بعد استئناف المفاوضات استطاع ولد لبات أن يكسب ثقة الأطراف المتفاوضة، ويحول دوره من رئيس لفريق الاتحاد الإفريقي في السُّودان إلى خبيرٍ، ووسيطٍ، وميسرٍ، ومسهلٍ، “دون أن تلتبس عليه حدود” هذه الوظائف المتشعبة، بل وظِّفها بجدارة في اقناع الأطراف المتفاوضة؛ للتوصل إلى حلول توافقية، تجلَّت في مخرجات الوثيقة الدستورية الانتقالية للفترة لسنة 2019م.

سياق الوساطة
استهل ولد لبات الفصل الأول من شهادته عن المفاوضات السُّودانية بحديثٍ مفصلٍ عن التركيبة العسكرية والسياسية التي شكلت أدوار الفاعلين على المسرح التفاوضي وأجندتهم المعلنة والخفية، الأمر الذي يؤكد مدى وعيه بطبيعة المشكلة التفاوضية. إذ قسَّم العسكريين إلى خمسة قطاعات، شملت قوات الشعب المسلحة (الجيش)، وجهاز الأمن والمخابرات، وقوات الدعم السريع، وقوات الشرطة، ثم أطلق على هذه المجموعات متعددة المنابت والتكوين والأهداف “منظومة الدفاع والامن”. وخارج إطار منظومة الدفاع والأمن أشار إلى حركة تحرير السُّودان جناح عبد الواحد محمد نور، وحركة تحرير السودان جناح مني أركو مناوي، والحركة الشعبية لتحرير السُّودان/قطاع الشمال، وحركة العدل والمساواة السودانية، وقوات الدفاع الشعبي أو مليشيات النظام المباد. أما قوى إعلان الحرية التي تمثل الحاضنة السياسية للثورة، فقد نظر إليها من ناحية تكوينها التحالفي، الذي يشمل تحالف نداء السُّودان، وقوى الاجماع الوطني، والجبهة الثورية، وتجمع المهنيين السُّودانيين، والحزب الاتحادي المعارض، والجمهوريين، وبقية أطياف الوسط السياسي والمدني السُّودانية. وخارج فضاء قوى إعلان الحرية والتغيير، أشار المؤلف إلى قطاعات الإسلاميين المؤيدة للثورة والمعارضة لها، والأحزاب الصغيرة التي كانت متحالفة مع النظام القديم إلى حين سقوطه في 11 أبريل 2019م.
ويرى ولد لبات أنَّ انحياز قيادات منظومة الدفاع والأمن (اللجنة الأمنية العليا) إلى الثورة في 11 أبريل 2019م قد أسس “لثنائية تفاوضية مقدسة” بينها وقوى إعلان الحرية والتغيير؛ لكنها ذات تركيبة شائكة وغير متجانسة داخل حواضنها العسكرية والسياسية. ولذلك احترز ولد لبات من خطايا الوسيط العشر التي حذر منها الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي، واستعاض عنها بسبع خصال مساعدة. انعكست في سلوكه المتواضع تجاه الأطراف المتفاوضة، واحتفاظه بمسافة متساوية بينهما، وتعامله بتكافؤٍ مع وجهات النظر المتباينة، واستهلاله بالقضايا المتفق عليها قبل النقاط الخلافية، وميله إلى الحلول التوافقية المستدامة بدلاً من الحلول الأحادية المتعجلة. بهذه الكيفية كسب ولد لبات ثقة الأطراف المتفاوضة، إلى درجة أهلَّته أن يكون وسيطاً، وميسراً، وخبيراً، يُستأنس برأيه ومقترحاته، عندما تفترق طرق المتفاوضين. كما أنه أفلح في إقناع الدكتور محمد درير، ممثل رئيس وزراء أثيوبيا، بأن يعمل معه في تناغم تحت مظلة الاتحاد الإفريقي بدلاً من أن يفترع مساراً إثيوبياً متوازياً، ربما لا يقود إلى النتائج المرجوة.

إنضاج الوساطة
في إطار “إنضاج الوساطة”، اتصل ولد لبات بممثلي الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا في الخرطوم، وطلب منهم دعم الوساطة الإفريقية، و”الامتناع عن القيام بأي مسعى موازٍ مهما كان نوعه وطبيعته”، ومن جانبه التزم بإعلامهم بمجريات المفاوضات بصفة مستدامة، واستشارتهم في القرارات المنبثقة عن المفاوضات. واصطحب أيضاً معه تأييد سفراء الدول الإفريقية والعربية لدي جمهورية السُّودان. وعلى المستوى المحلي استأنس ولد لبات بلجنة الوساطة الوطنية الأولى المكونة من أسامة داؤود، ومحجوب محمد صالح، وفدوى عبد الرحمن علي طه، وإبراهيم طه أيوب، وإبراهيم أبوبكر صديق، وحيدر محمد علي؛ وكذلك لجنة الوساطة الثانية المكونة من أحمد النفيدي، وأنيس حجار، ومضوي إبراهيم آدم، وأحمد التوم، للترويج لبعض الحلول المقترحة قبل أن يعرضها على طرفي التفاوض. كما اصطفى شخصين من أعضاء “المبادرة القومية السُّودانية”، وهما الأستاذ فاروق آدم والدكتور مصعب وهباني، ليكونا بمثابة “مستشارين” له؛ لأنه التمس فيهما روح الإخلاص والتجرد والموضوعية، والفاعلية في تسويق مقترحاته في أوساط قوى إعلان الحرية والتغيير، قبل أن يعرضها على مائدة المفاوضات.
وفي تهيئة المفاوضين ذهنياً ونفسياً لمقترحاته التوافقية، اعتمد ولد لبات على نموذجي “الطرد” و”الجذب”، وأعني بنموذج “الطرد” الابتعاد تجارب المفاوضات الفاشلة في الكونغو، والصومال، وجنوب السُّودان، وليبيا، وسوريا، واليمن، والتي طرحها كفزاعة لأبعاد المتفاوضين من الحلول الأحادية والمتشددة التي ربما تفضي إلى إفشال المفاوضات. أما نموذج “الجذب” فيُقصد به الاستئناس بتجارب المفاوضات الناجحة في رواندا، وجنوب إفريقيا، وموزنبيق، والتي استندت إلى التطبيق السياسي العقلاني لمفهوم العدالة الانتقالية، الذي جمع بين “إظهار الحقيقة، والعفو، والتعويض، وإصلاح الضرر، والمصالحة، والمقاضاة.” لذلك انتقد ولد لبات بشدة الخطاب التحريضي الذي روَّج له بعض أعضاء “ثنائية التفاوض المقدسة”. واستشهد في ذلك باتهام قيادات منظومة الدفاع والأمن بأنهم و”كلاء للنظام” القديم، وعملاء “يأتمرون بأمر القوي الأجنبية”، و”أعداء حقيقيون للشعب، لا تربطهم به وشائج الدم، وليس لديهم أي شعور بالتعاطف معه. إن الجلوس معهم على طاولة المفاوضات يعتبر خيانة للثورة وإساءة إلى أرواح الشهداء.” وعلى الضفة الأخرى، اتهام مضاد لقوى إعلان الحرية والتغيير، روج له بعض العسكريين ومناصريهم الذين وصفوا بعض قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير بأنها “مجرد حثالة من المرتزقة الأجانب، ومن مدمني المخدرات، ومن المغامرين، يتخذون لبوس الشيوعيين، والناصريين، والبعثيين، والديمقراطيين، والوحدويين، والوسطيين، والمتمردين على الدولة الخارجين على القانون، ومن أحزاب بالية عفا عليها الزمن، ولم يعد لها مكان إلا في متحف التاريخ.” أظهر ولد لبات موقفاً رافضاً لمثل هذا الخطاب التحريضي؛ لأنه من وجهة نظره سيقود البلاد إلى الانزلاق في “مهاوي الفوضى المدمرة”، ولذلك وعد الأطراف المتفاوضة بتوظيف كل إمكاناته وخبراته وحبه للسودان؛ لتجنب السبل المؤدية إلى النتائج المدمرة، والعمل على إنجاح تسوية توافقية تقود البلاد إلى بر الأمان، تقديراً لطلعات النساء والشباب والشيوخ الذين شكلوا نسيج الثورة، وناضلوا وضحوا من أجل إحلال نظام حكم ديمقراطي، يرعى حقوقهم الوطنية، ويرسخ لمبادئ الحرية والسلام والعدالة.

(يتبع: الحلقة الثانية)

Translate »