
من التوافق إلى التفرد: هل يشكل قرار “لا تمديد” خطوة إنقاذ أم مغامرة غير محسوبة؟
واجومانيوز
بقلم: فرانسيس مايكل
في خطوة ظهرت من الوهلة الأولى وكأنها “تحولاً سياسيا”، أعلنت رئاسة جنوب السودان قرارها الحاسم: لا تمديد جديد للفترة الانتقالية، والانتخابات ستُجرى في موعدها المقرر في ديسمبر 2026، ورغم أن هذا الإعلان يبدو استجابة لمطالب الشارع والمجتمع الدولي بإنهاء حالة الجمود، إلا أن النظرة المتعمقة تكشف أنه قد لا يكون بداية الخلاص، بل يبدو كأنها مغامرة غير محسوبة قد تجهز على ما تبقى من اتفاق السلام الهش.
أولى علامات الاستفهام تحيط بالطريقة التي صيغ بها القرار. فكيف يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي وانتخابات نزيهة بينما يغيب أحد أبرز أطراف اتفاق السلام؟ حضور شخصيات منشقة مثل استيفن فار، رغم غياب د. رياك مشار وقيادات الحركة الشعبية في المعارضة، يجعل المشهد أشبه بـ “مونولوج رئاسي” لا “حواراً وطنياً”. وجود زعيم المعارضة فعلياً تحت الإقامة الجبرية يزيد المشهد التباساً، ويعري أزمة الشرعية التي تعانيها الحكومة منذ سنوات.
الحقيقة أن البلاد أمام محاولة مكشوفة لفرض سياسة الأمر الواقع، تُفصَّل فيها العملية الانتخابية بما يخدم طرفاً واحداً يمتلك القوة، فيما يُهَمَّش خصومه وتجريدهم من أدواتهم السياسية.
المصطلح الجديد الذي طُرح تحت عنوان “برامج ما بعد اتفاق السلام” يعكس بشكل غير مباشر اعترافاً بفشل تنفيذ بنود الاتفاق الأساسية، وبدلاً من معالجة الإخفاقات المتعلقة بإعداد الدستور الدائم وتوحيد القوات، قررت الرئاسة ببساطة ترحيل هذه الالتزامات إلى ما بعد الانتخابات، ما يفصل بين “إجراء الانتخابات” و”تهيئة البيئة الآمنة لها”. وهذا في حد ذاته وصفة واضحة للأزمة، لأن الانتخابات ليست غاية بحد ذاتها، بل أداة للحكم، وإجراؤها بلا دستور وبلا جيش موحد يجعلها مجرد غطاء شكلي لإبقاء الوضع كما هو.
زيادة على التعقيدات السياسية، يأتي الواقع المالي الهش للبلاد. توجيه وزارة المالية بتوفير التمويل فوراً يبدو أقرب إلى الأمنيات، في دولة تعجز أحياناً عن دفع رواتب موظفيها لأشهر. فكيف يمكن إنجاز تعداد سكاني وصياغة دستور خلال فترة قصيرة، بينما فشلت النخب السياسية في ذلك لسنوات طويلة؟ هذه الفجوة الزمنية واللوجستية تضع البلاد أمام خيارين أحلاهما مر:
انتخابات شكلية ضعيفة الأساس ومعروفة النتائج مسبقاً.
اعتراف متأخر باستحالة إنجاز المتطلبات الفنية، والعودة إلى تمديد جديد تُفرض شروطه من الطرف الأقوى.
الذهاب إلى صناديق الاقتراع دون توحيد القوات يعني عملياً أن كل مرشح سيعتمد على ميليشياته لحماية أصواته، ومع تقارير تشير إلى تدخلات إقليمية مثل وجود قوات أوغندية، تتحول المنافسة السياسية إلى صراع نفوذ مسلح، حيث قد يذهب الخاسر في الانتخابات لا إلى مقاعد المعارضة، بل إلى الخنادق.
لا يمكن قراءة قرار “عدم التمديد” إلا باعتباره مناورة جريئة ومحفوفة بالمخاطر، وتسعى الرئاسة من خلالها لانتزاع زمام المبادرة والظهور بمظهر الحريص على الديمقراطية، بينما تُحَمَّل المعارضة أو المجتمع الدولي مسؤولية أي فشل لاحق بذريعة نقص التمويل أو العراقيل السياسية.
من المؤكد أن جنوب السودان بحاجة إلى كسر حلقة التمديدات المتتالية، لكن القفز فوق التحديات العميقة لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة، وبدون توافق سياسي يشمل د. مشار أو أي قيادة معارضة فاعلة، وبدون توحيد حقيقي للقوات، فإن ديسمبر 2026 قد لا يكون موعداً لانطلاقة ديمقراطية، بل محطة أخرى تعيد إنتاج المأساة.