وكتب باطومي ايول .. كير وقرارات فبراير ٢٠٢٥م ، انقلاب ناعم ومآلات المستقبل

واجومانيوز

بقلم: باطومي أيول

الايميل:bathum44@yahoo.com

تفاجأ الجميع مساء الاثنين العاشر من فبراير 2025 بتغييرات حكومية واسعة وتعديلات في الهيكلة الحكومية بصورة غير متوقعة، وذلك بعد أن أصدر الرئيس سلفا كير ميارديت سلسلة من القرارات الرئاسية التي طالت الهيكل الحكومي والأمني والحزبي. هذه التغييرات وضعت الشارع العام في حالة من الذهول والارتباك  السياسي، مما دفع الكثيرين من المهتمين إلى التفكير خارج الإطار المعتاد في جنوب السودان حول الطريقة التي ينبغي أن تسير بها الأمور السياسية في البلاد.

من يتابع مجريات الأحداث السياسية في البلاد يجد أن نظام كير ظل لفترة طويلة رهين تغييرات سياسية مستمرة، وكأنه يبحث عن شيء معين أو مستوى معين من التغيير، تغيير يتطلع إليه بنفسه دون الخضوع لأي مؤثرات سياسية خارجية. هذا واقع، فقد أصبحت التغييرات السياسية في هيكلة الحكومة مرهونة بمواقفه وتطلعاته واتجاهاته السياسية فقط وبدرجة كبيرة، بعيدًا عن سياسات وتوجهات الحزب الحاكم التي ينبغي أن تصدر من ممثلي الهيكلة التنفيذية للحزب. فهذا بالطبع يؤسس لفكرة مغايرة لا يمكن التكهن بمآلاتها في ظل المناخ السياسي السائد الآن، حيث يتم احتساب كل خطوة لأي عضو يخرج عن سياق رأس الحزب، الذي يعتمد بدرجة كبيرة على مظاهر الاحتواء والتحكم في إدارة النظام والحزب وفقًا لما يريده هو، وليس بناءً على خيارات الأعضاء. بالطبع لا يمكن فصل هذا النهج عن سمات أنظمة الحكم في الدول النامية التي تعتمد بدرجة كبيرة على إدارة الشأن العام وفق إرادة الحاكم الفردي وصاحب السلطة، والتي تتزين بتنشئة سياسية خاضعة فقط للأعضاء وفقًا لمبدأ التبعية العمياء. في رأيي، هذا أمر طبيعي نظرًا لتركيبة الحركة الشعبية (الحزب الحاكم)، التي بدأت كمنظمة عسكرية منذ نشأتها وفترات نضالها، والتي اعتمدت بدرجة كبيرة على مبدأ الخضوع العسكري القاطع وفق الهرمية التراتبية. فالحركة الشعبية، كحركة ثورية، ظلت رهينة لهذا النهج من التفكير، وستظل كذلك ما لم يحدث لها تفكك كامل، وإلا فإن ممارساتها في العملية السياسية ستُفسَّر على أنها إعادة إنتاج لنظام ديكتاتوري في عصر كان يتوق فيه شعب جنوب السودان إلى الحرية الكاملة والرفاهية التي تنسيه مرارات التاريخ المرعب الذي ظل حاضرًا في مخيلته.

نعم، جاءت قرارات فبراير 2025م في تقديري وكأنها “انقلاب ناعم” ينخر في جسد تاريخ الحركة الشعبية لتحرير السودان، مخالفًا لمسار الانتقال السياسي السلس للحركة الشعبية كما حدث بعد أن غيّب الموت زعيمها التاريخي د. جون قرنق في عام 2005م وتولى كير السلطة خلفًا له معتمدين واقع التراتبية الحزبية المعروفة. إذ تمثل هذه القرارات قفزة غير متوقعة في هيكلة الحكم، حيث لم تخضع للتأويل التقليدي المعتاد ولم تكن قابلة للتفكيك وفق الظروف العادية، نظرًا لعوامل تتعلق بالقبضة القوية والتخطيط الاستراتيجي المستحضر منذ وقت بعيد. هذا الوضع يفرض مرحلة جديدة من التفكير ومراجعة دور القيادات التاريخية للحزب الحاكم في جنوب السودان، إذ أصبحوا أمام واقع جديد لا مفر منه، ولن تنفعهم في ذلك حالة الذهول التي تسود الشارع السياسي الآن. بالرغم من ذلك، فإن هذه التغييرات لا تعني أنها غير قابلة للمراجعة مستقبلاً، برغم أنني أتوقع أن تتعرض لبعض العثرات، بل سوف تواجه تحديات صعبة في سبيل تحقيق مراميها بشكل كامل، فمجاوزتها ستعتمد بدرجة كبيرة على إمكانيات القائد الجديد المرتقب والمنشود.

أهم من ذلك، فهناك تساؤلات جوهرية واسعة حول شرعية هذه الخطوات، ومدى قدرتها على فرض أمر واقع سياسي مزعج، خاصة أنها قائمة على إعادة ترتيب موازين القوى داخل الدولة والحزب الحاكم حسب منظور فردي قاطع. ومن أبرز هذه التغييرات استبعاد الحرس القديم وأصحاب الإرث السياسي، مثل د. جيمس واني إيغا، الذي تم نقله من منصبه كنائب لرئيس الحزب إلى منصب الأمين العام أولًا ومن ثم إعفاؤه من كونه كان نائبًا لرئيس الجمهورية، مع تعيين جيل جديد ليحل محله، وهو أمر في رأيي مثير للدهشة. ومن مأخذ قرارات فبراير 2025م أيضًا، تم استبدال نائب رئيس الجمهورية لقطاع الخدمات وتعيينه وزيرًا اتحاديًا فقط، وهو ما قبله دون أي اعتراض، ربما لتجنب مشكلات سياسية متوقعة تتعلق بالخضوع المطلق لرأس الدولة. يرى البعض أن هذه التغييرات تعكس مستقبلًا سياسيًا مضطربًا، قد تكون له تداعيات كارثية على مراحل بناء الأمة وعلى مسار المواجهة السياسية داخليًا وخارجيًا. فظهور د. بول ميل كنائب لرئيس الجمهورية للقطاع الاقتصادي يفتح صفحة جديدة في الممارسة السياسية في جنوب السودان، وربما يمهد الطريق له ليكون الرئيس القادم، بغض النظر عن كونه جاء عبر إجراءات تجاوزت الأعراف الحزبية التقليدية.

قرارات فبراير 2025 تجسد تحولًا عميقًا في أسلوب صناعة القرار السياسي في جنوب السودان، حيث لا تزال الخلفيات والتوازنات الإقليمية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل المشهد السياسي. ومن الأدلة على ذلك استبعاد د. لام أكول مجددًا من منصب نائب الرئيس، مما يشير إلى أن هذه القرارات خضعت لاعتبارات سياسية لم تراعِ بالضرورة مبدأ العدالة والمساواة السياسية كونه اعتمد على منهج تقليدي مبني على التوازن المجتمعي من جانب والتنافس السياسي من جانب آخر، متغاضيًا عن مبدأ الإمكانيات والفعالية. كما أن هذه التغييرات تطرح تساؤلات حول قدرة المدرسة السياسية الجديدة على تحقيق سلام مستدام، في ظل اتفاق سلام (اتفاقية السلام المنشّطة) انتهت مرحلته الثالثة ويتجه إلى المرحلة الرابعة من التنفيذ المتعثر. ومع وجود محادثات سلام شبه منهارة في نيروبي، خاصة بعد إعلان غير رسمي عن انسحاب الحكومة منها، فإن فرص تحقيق الاستقرار السياسي تظل غير واضحة في هذا الصدد بعد قرارات “الانقلاب الناعم”.

إن تحقيق سلام مستدام في جنوب السودان يتطلب مراجعات واسعة في منهج الانتقال السياسي، بعيدًا عن حسابات المكاسب الشخصية للقادة السياسيين. فقرارات فبراير 2025 تعكس حالة “انقلاب ناعم” يهدف إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي وفقًا لمصالح معينة، مما يثير تساؤلات حول مدى نجاح المدرسة الجديدة في إدارة تناقضات بناء الأمة، أو ما إذا كانت مرحلتها ستكون أكثر توترًا ومشحونة بالمخاطر، تبعًا لمدى قدرتها على تحقيق التوافق السياسي المطلوب.

تم

Translate »