النفط بلا قيود: كيف تحررت جوبا من ابتزاز بورتسودان ؟

واجومانيوز

بقلم عمار نجم الدين

بينما كان العالم مشغولًا بمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP28) في دبي، حيث تتحدث الدول عن مستقبل الطاقة المتجددة، وقّعت جنوب السودان واحدة من أكبر صفقات النفط في تاريخها مع شركة إماراتية. صفقة بـ 12.9 مليار دولار، تمتد لعشرين عامًا، تعيد رسم المشهد النفطي والاقتصادي في شرق إفريقيا، وتؤسس لمرحلة جديدة من استقلالية جوبا عن الخرطوم.

 

لكن في بورتسودان، حيث الحكومة السودانية المؤقتة تكافح لإثبات شرعيتها بين نيران الحرب والفوضى الاقتصادية، استقبلت السلطة هذه الصفقة لا كحدث اقتصادي، بل كإهانة سياسية. وسرعان ما تحولت الآلة الإعلامية الحكومية إلى حملة هجوم شرسة ضد جوبا، مصحوبة بتحليلات تعكس أوهام الهيمنة القديمة، رغم أن الخرطوم نفسها تغرق في مستنقع داخلي بلا مخرج.

لم تمضِ ساعات على الإعلان عن الصفقة، حتى انفجرت

 

حملة إعلامية مسعورة يقودها الصحفيون المرتبطون بالأجهزة الأمنية السودانية. تحليلات تروج لنظرية المؤامرة: “الإمارات تريد الاستحواذ على نفط جنوب السودان”، و”هذه الصفقة تستهدف السودان مباشرة”، و”جوبا لم تكن لتجرؤ على هذا القرار لولا دعم خارجي”.

لكن ما لم تستوعبه حكومة بورتسودان أن العالم قد تغير، وأن جنوب السودان لم يعد ذلك الامتداد الجنوبي الذي تديره الخرطوم عبر قرارات فوقية. الرسائل التي حملتها الحملة الإعلامية كشفت عن عدة حقائق خطيرة: السودان لا يزال يرى نفسه وصيًا على جنوب السودان، رغم أن الأخير أصبح دولة مستقلة منذ 2011.

 

الخطاب السوداني ما زال محاصرًا في عقلية “الحق التاريخي”، متجاهلًا أن كل المؤشرات الاقتصادية والسياسية تؤكد أن جوبا في طريقها للتحرر الكامل من أي ارتباط اقتصادي بالخرطوم. الجيش السوداني، رغم أزمته الداخلية، لا يزال يستخدم الإعلام كأداة لصرف الأنظار عن فشله في إدارة الأزمة الوطنية، بتحويل اللوم إلى “أعداء خارجيين”.

 

كانت العلاقة بين السودان وجنوب السودان بعد الانفصال تشبه علاقة القيد الذهبي: جوبا تملك النفط، لكن الخرطوم تملك أنابيب التصدير. هذه المعادلة جعلت جنوب السودان رهينة للاقتصاد السوداني، حيث يعتمد على خط أنابيب يمر عبر السودان إلى بورتسودان، وهو ما مكّن الخرطوم من استخدام النفط كورقة ضغط سياسية.

 

لكن الآن، مع الصفقة الإماراتية، يتغير كل شيء: بناء خط أنابيب مستقل سيحرر جنوب السودان من الحاجة إلى بورتسودان. تمويل بناء مصفاة جديدة سيجعل جوبا قادرة على تكرير نفطها بدلًا من تصديره خامًا. دخول الإمارات كوسيط اقتصادي قوي سيقلل من نفوذ السودان على قطاع الطاقة في جوبا. هذه ليست مجرد صفقة نفطية، إنها إعلان تحرر اقتصادي كامل من الإرث الاستعماري الذي فرضته الخرطوم على الجنوب منذ استقلاله.

 

وسط كل هذا، تبقى المفارقة الأكبر أن الحكومة السودانية نفسها في حالة انهيار اقتصادي كارثي، حيث فقد الجنيه السوداني أكثر من 85% من قيمته خلال الحرب، بينما يعيش ملايين السودانيين تحت خط الفقر. ومع ذلك، لا يزال المسؤولون في بورتسودان يتعاملون مع جنوب السودان وكأنه تابع لهم، وليس شريكًا ندًا. إن السودان اليوم دولة بلا عاصمة فعلية، بلا نظام مالي مستقر، وبلا اقتصاد قادر على المنافسة، ومع ذلك يهاجم حكومة جوبا لأنها تجرأت على اتخاذ قراراتها الخاصة!

 

لكن الحقيقية الصادمة هي: لم يعد السودان مركزًا اقتصاديًا مؤثرًا كما كان في التسعينيات. لم يعد جنوب السودان بحاجة إلى موافقة الخرطوم على أي قرار اقتصادي مصيري. لم يعد النفط الجنوب سوداني شريان حياة للسودان، بل أصبح عبئًا يبحث عن طريق آخر بعيدًا عن الخرطوم.

 

الدرس الأهم من هذه الصفقة ليس فقط في تداعياتها الاقتصادية، ولكن في الرسالة السياسية التي تحملها: العالم لا ينتظر السودان ليقرر مصير جنوب السودان، بل إن الخرطوم لم تعد ذات تأثير يُحسب في صناعة القرار الإقليمي. الزمن الذي كانت فيه الخرطوم تملي على جوبا قراراتها قد انتهى، وكل محاولة لإحياء ذلك النموذج هي مجرد أحلام فارغة. بورتسودان تحتاج إلى مواجهة الحقيقة: السودان في وضعه الحالي ليس قوة يُحسب لها حساب، بل مجرد طرف يعاني من حرب استنزافية تهدد وجوده نفسه.

 

الطريق الوحيد أمام السودان للخروج من هذا المستنقع ليس في محاولة السيطرة على جوبا مجددًا، بل في الاعتراف بأن المرحلة القادمة تتطلب إعادة تعريف دور السودان في المنطقة، وإيجاد وسائل تعاون متكافئة بدلًا من الخطابات المتعالية. لكن هل هناك من يفهم هذا الدرس في بورتسودان؟

 

الإجابة قد تأتي في شكل صدمة أخرى قريبًا… وربما لن تكون مجرد صفقة نفطية هذه المرة.

 

كان السودان في الماضي مركزًا اقتصاديًا وسياسيًا في القرن الإفريقي، لكنه اليوم يتحول إلى مجرد لاعب ثانوي على الهامش، يُفاجأ بقرارات الآخرين دون أن يكون له رأي فيها.

والسؤال الحقيقي هنا ليس عن مستقبل العلاقة بين السودان وجنوب السودان، بل عن مستقبل السودان نفسه: هل يمكن أن يتحول من دولة غارقة في أوهام الماضي إلى دولة تعترف بالواقع وتعيد بناء نفسها وفقًا لقواعد جديدة؟

 

حتى الآن، يبدو أن الإجابة أبعد ما تكون عن الإيجاب… لكن الزمن وحده سيحمل الإجابة النهائية.

Translate »