طريق “ابيي ـ انيت” مغامرة محفوفة بالمخاطر
واجومانيوز
تقرير: سايمون دينق/ابيي
حطت بنا الطائرة في مطار انيت التابعة لادارية ابيي في منتصف نهار الجمعة 18- 10- 2024 بعد رحلة جوية استغرقت ساعتين كاملتين، ابتداء من عاصمة البلاد جوبا.
المطار عبارة عن “ردمية تراب” بطول اثنين كيلو متر او يزيد قليلا، ما يعني انه لا يسع في وقت واحد لعدد طائرتين صغيرتين سعة 20 راكب، وتخلوا تماما من اي شيء له علاقة بانظمة ادارة المطار او اجهزة الملاحة الجوية وسلامتها، نزلنا “قفزا” الي الارض من باب الطائرة لعدم وجود “السلم” في المطار، وقد استقبلنا شباب “انيت” بوجوه بشوشة واسارير منفرجة، بل تعاملوا معنا تعاملا راقيا، وارشدونا نحو شجرة ظليلة التي في اسفل الطريق، يدار تحت ظلها كل شؤون المطار كاملة، فهي تعتبر صالة المغادرة والوصول، ومكان لفحص الجوازات للاجانب، وبعد ان انتهينا من ارتشاف الشاي تحت ظل نفس الشجرة استفسرنا احد الشباب عن الوسيلة المناسبة كي تقلنا الي مدينة ابيي!؟ كان رده ان الطريق وعر جدا ولا سبيل للوصول غير على ظهر الدراجة البخارية “الموتر” او سيرا على الاقدام، واضاف: نحن لا ننصح بالخيار الاخير لما فيه من معاناه ومخاطر لا توصف، وعلينا اخطاركم ايضا بان الطريق الي ابيي في كلا الحالتين ليس آمنا كما يجب، لان بعض المسلحين من منطقة “تويج” المجاورة يقومون بين فينة واخرى بغارات مسلحة على الطريق ويقتلون المارة، اخر ضحاياهم كان طبيبا يدعى “جون قير” اغتيل هنا في هذا المكان الاسبوع الماضي وهو في طريقه الى مكان عمله بمستشفى اقوك الحكومي وهو نفس الموقع الذي اغتيل فيه نائب رئيس ادارية أبيي الخاصة هونربول “نون دينق نيوك” في مطلع هذا العام وأيضاً هونربول “ميوت كونيت ميان” وزير البنى التحتية في إدارية أبيي في نهاية العام الماضي،” كل هؤلاء غدر بهم مسلحو “تويج” في هذا الطريق على حد قوله، ويضيف: الحكاية برمتها تعتمد على الحظ وحده، ونأمل ان تكونوا من اصحاب الحظ الوفير.
سألته، دعنا من هذه الاحداث واخبرنا: كم تبلغ قيمة الوصول الي مدينة “ابيي” على ظهر “الموتر”للفرد الواحد!؟!، فقال: المشوار قيمته مبلغ قدره “450 الف جنيه” او مائة دولار امريكي… صحت في وجه بنبرة مرتفعة.. حرام عليك يارجل..!! كيف يستقيم بالمنطق والعقل، ان يدفع المرء كل هذا المبلغ الباهظ من اجل الوصول الي مدينة تبعد مسافة “30” كيلو متر فقط!؟
قال: دائما انتم تقولون هذا الحديث لانكم تجهلون مشاكل الطريق ووعورته، ولكنني اجزم انه بعد وصولكم الي ابيي سالمين، وقتها ستدركون ان ما نبذله من اجلكم مجهود جبار جدا، وان ما ناخده مقابل تعبنا لا قيمة له.
بالفعل وافقنا على القيمة دون مزيد من النقاش غير المجدي، ومن ثم تحرك جميع افراد رحلتنا وعددنا “15” فردا، كل شخص على ظهر “موتر” تخصه لوحده، كان ذلك في حوالي الساعة الواحدة ظهرا واتجهنا شمالا حيث الطريق المزعوم.
لم نستغرق من الوقت سوى بضعة دقائق ووجدنا انفسنا امام بحيرة ممتدة تشق غابة كثيفة الاشجار، توقفنا عندها.. ثم وجدت نفسي اقول للسائق: اياك ان تقول لنا ان هذه البحيرة هو الطريق!؟
ضحك حتى خلته لن يتوقف، ثم قال: وهل ترى امامك يا استاذ وسط هذه الغابة، مكانا شاغرا يصلح للسير فيه غير ما تسميه انت بحيرة!؟ ويضيف يؤسفني القول انه حان الوقت كي نقلع ملابسنا هنا، كل الملابس باستثناء السروايل الداخلية، وان شئتم اخلعوها ايضا وادخلوها في حقائبكم، كما انصح ايضا بان تسيروا داخل المياه في خط مستقيم، كل شخص وراء شخص في الاتجاه الذي نحدده نحن امامكم، لان السير بشكل عشوائي سيعرضكم لطعنات الشوك المتساقط داخل المياه، فانتم تلاحظون ان هذه الغابة اغلب اشجارها شائكة، وحدنا نعرف خبايا هذا الطريق وعليكم الالتزام بما نقوله من اجل سلامتكم.
امتثلنا لهذه الموجهات كلها واستثنينا حكاية السراويل الداخلية المثيرة.. دخلنا البحيرة من غير تردد نخوض المياه التي تصل حدود الفخذين تارة، وتارة اخري “نخمج” الطين والوحل بارجلنا، اما هم (اصحاب المواتر) فكانوا في صراع محموم مع”مواترهم” التي تكاد تغطس داخل الطين وامتعتنا مربوطة على ظهرها، في البداية كنا نساعدهم في سحبها من الوحل حتى الوصول الي مكان افضل نسبيا، ولكن عندما بلغ بنا التعب مبلغا لم نعد نهتم لامرهم.
اجتزنا مرحلة المياه بعد نصف ساعة سيرا على الاقدام ودخلنا الي منطقة “الطين اللزج”، وليته بقينا في المياه..! لان بعضنا بلغ بهم التعب داخل الطين لدرجة يكاد يعجز من رفع ساقه الي الامام.
بعد ساعة ونحن على هذا الحال بلغنا اليابسة في منطقة يطلق عليها اسم (ابطوك).. امتثلنا للراحة هنالك بعض الوقت وتزودنا بالمياه ثم طلب مننا اصحاب المواتر بان نجلس خلفهم لمواصلة المشوار المرهق، قطعنا مسافة سبعة كيلو مترات نظيفة دون مشاكل حتى اعتقدنا اننا تجاوزنا المعاناة، وفجأة!! راعينا من بعيد ،مظهر اشياء تبدو لنا باللون الابيض غير واضحة المعالم متكومة وسط الطريق، اتضحت لاحقا انها كانت عبارة عشرات السيارات المتنوعة تعود ملكية اغلبها للتجار الصوماليين والاحباش، وبشكل ادق معظمها كانت جرارات مشحونة بالبضائع وبعضها تناكر محمولة بالوقود.. كان سائقي هذه السيارات في وضع يرثى له وحالهم يغني عن السؤال، وبالرغم من ذلك، سألت احدهم: كم من الوقت قضيتموه هنا وسياراتكم متوحلة داخل الطين؟ اجابني بانه هو بنفسه قضى اكثر من 15 يوما هنا جوار سيارته ويضف ولكن بعض الاخوة لهم اكثر من شهرين في هذا المكان .. ومضي يقول، احيانا بعد حفر وجهد ومعاناة قد نتمكن من تحريك السيارة لمسافة كيلو متر واحد او اقل، ثم نسقط مرة اخرى في وحل جديد وهكذا دواليك – ومازال الحديث له – ولكن المشكلة الكبرى التي تواجهنا وسط هذه الغابة ونحن بهذا الحال هي ان سياراتنا تتعطل احيانا بفعل الصراع مع الطين وتحتاج الي قطع غيار قد يكون غير متوفر لدينا هنا من اجل تشغيلها مرة اخرى، ويضيف: في كثير من المرات بعض السيارات نقوم بتركها في حالها وهي مشحونة حتى ينجلي فصل الخريف تماما، وبعد ذلك نعمل على صيانتها واخراجها من الوحل.. يقول ذلك وهو يشير الي “جرار” لم تبق له عجلة مكشوفة للعين، فكل نصف السيارة غاط في وحل الطين..
سالته.. كيف تمكثون هنا ويقال ان الامن غير مستتب على هذا الطريق ..!؟ وما هو خياراتكم اذا حدث ما لم يكن متوقعا لا قدر الله!؟
اجاب: مسلحون كثيرون يمرون في هذا الطريق على مدار اليوم ولا يعنينى امرهم لانهم لا يتعرضون لنا، فقط احيانا يطلبون منا المساعدة في بعض الاشياء مثل الدقيق والسكر والملح، وفي احايين اخرى نحن من نطلب منهم المساعدة فيجلبون لنا السمك واللبن.. قاطعته يعني ذلك انكم في مأمن عن احداث الطريق!؟
يجيب: ليس كذلك تماما، ولكن على ما يبدو الصراع في هذه المنطقة يأخذ طابعا عشائريا كما قيل لنا ونحن لا ننتمي الي هنا.
كل هذ الحديث الجانبي اجريته مع سائق جرار ، صومالي الجنسية، وفي المقابل لم تنقطع المحاولات الحثيثة التي يبذلها اصحاب المواتر من اجل تجاوز هذه السيارات المتوحلة في منتصف الطريق.. استغرق الامر ساعة كاملة حتى بلغنا منطقة يطلق عليها “منيانق”.. ومنها تنوع اسلوب الطريق بين هذا وذاك، نصعد احيانا الي ظهر المواتر ، ثم ننزل منها ونسير على الاقدام لمسافة اثنين او ثلاثة كيلو مترات وبينما يتولى اصحاب المواتر مهمة صراعهم المستمر مع الطين ومعهم امتعتنا، ما يعني انه من بداية المشوار في منطقة انيت حتى الجسر المعروفة باسم ( كبري اكيجنيال) استغرقنا ما يزيد عن اربعة ساعات من المعاناة والارهاق البدني الشديد.
جلسنا عند الكبري للراحة نصف ساعة اخرى وعدنا الي مواصلة المشوار حتى بلغنا اخيرا مدينة ابيي في حوالي الساعة السادسة ونصف مساء الجمعة 18 -10 2024.