ولاية اعالى النيل: هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
واجوما نيوز
بقلم: فرانسيس مايكل قوانق
واجوما نيوز
عنوان المقال عبارة عن جملة ذات فائدة، توارثتها الشعوب مشافهة من جيل إلى جيل، المثل بليغ العبارة شائع الاستعمال في مختلف طبقات المجتمع، ويلخص خبرة اختبرتها جماعة بثقة تامة فصدقوه في حل مشكلة وانتهت إلى عبرة لا تُنسى. هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
الحديث هنا عن التطورات السياسية والعسكرية في ولاية اعالى النيل مؤخرا بين أطراف اتفاقية تسوية النزاع المنشطة “الحكومة والمعارضة”، هذه التغييرات هي نتيجة التوترات السياسية والأمنية التي ظلت تتصاعد من وقت للآخر رغم وجود حكومة انتقالية بموجب الاتفاقية.
في مايو 2022، قامت الحركة الشعبية في الحكومة بقيادة سلفاكير، بإقالة نائب الحاكم جيمس تور منجبونج. وفي مطلع العام الجاري 2023، جاء الرد من الحركة الشعبية في المعارضة بإقالة الحاكم بضوك أيانق وتعيين جيمس أوضوك، حاكما للولاية، ويمكن أن نشير إلى أن تصاعد الأحداث السياسية في الولاية صحابتها أحداث قتال دامية، وهي نتيجة لغياب الثقة بين الأطراف السياسية ومجموعات التي بيدها السلاح “ميليشيات” في الولاية.
العديد من المتابعين للأحدث في ولاية أعالى النيل “جنوب السودان”، يتشكل في أذهانهم سيناريوهات متناقضة حسب مصالحهم وتحليلهم، لكن هذه سيناريوهات دوما ما تخالف الواقع “السلم” وما تتحول إلى العنف المسلح بين الأطراف وإجبار المدنيين على العنف المسلح على سبيل المثال أحداث مناطق الشلك والنوير، ويمكن تلخيص ذلك أنها نتيجة لتراكمات القضايا المجتمعية والسياسية في ولاية تعتبر واحدة من مراكز بؤرة الصراع في جنوب السودان.
ميليشيات المسلحة:
تظل ولاية أعالى النيل نقطة صراع قبلي سياسي (أزمة 2013) من التغييرات حيث أن كفة – القوة العسكرية- في الولاية تلعب دورا مهما في زعزع الأمن واستقرارها، فالمجموعات الخارجة عن القانون والتي تدعمها أطراف الاتفاقية عسكريا بطرق غير مباشرة، تشكل دورا في ذلك، على الرغم من البحث عن الأمن والاستقرار فإن قيادات أعالى النيل تقف شوكة الحوت أمام فرص الاستقرار، وتدعم المجموعات القبلية بوسائل العنف المسلح بهدف صناعة إمبراطورية “سلطة القبيلة والأفراد” على حساب أمن المواطن والقبائل الأخرى في الولاية.
أمام حكومة الولاية الجديدة “الحاكم ونائبه” مشاكل أمنية متعددة كبقية الولايات الأخرى، في قضايا الأمن وصراع القبلي على حدود والأراضي، وتشكل تحديا عجزت عنه الحكومات السابقة في وضع حلول لها، وهذا أمر مالوف أن تاريخ جنوب السودان يصاحبها العنف في أي عملية تتعلق بالحل السياسي.
في الفترات الأخيرة ظهرت مشكلة كيلو عشرة من جديد بين” المابان وملوط” حيث يزعم كل إثنية تبعية المنطقة لها “رغم تاريخ المنطقة”، وهناك مشكلة الأكبر حول مدينة ملكال عاصمة الولاية ومشاكل الأمنية في مايوت ولونقشوك مناطق “النوير” وفشودة وفنيكانق مناطق “الشلك”، ما لم يكن هناك حلول جذرية لتلك المشاكل من جوبا ستكون حكومة الولاية “الحاكم ونائبه” مجرد شعارات بطولية معلقة على حائط من أجل تضليل الرأي العام عن التغيير المزعوم، وهذا يعني إستمرار نزاع المصالح القبلية والحزبية، أي أن المشهد السياسي في الولاية سوف يظل بصورتها الإباحية المعروفة ويكتفي الجميع بقراءة الآيات ورفع شعارات.
مصالح مجموعة مشار:
بعد تعيين الحاكم الجديد “أوضوك” من معسكر مشار فهو يعلم تماما بطبيعة الصراع الذي ينتظره في الولاية، وبما إنه من قبيلة “الشلك” ومن معسكر سابق يقاتل من أجل قضية الأرض “اقويليك” فإنه يخوض في هذه المرحلة صراع عسكري وسياسي وقبلي، ثلاثي الأبعاد “اقويليك- بمصلحتها الأرض”، و “سلفاكير بمصالح السلطة والأرض”، ومشار بمصلحة السلطة”. وقعت اقويليك على اتفاق الانضمام إلى مجموعة “سلفاكير” وأصبحوا حاليا منظومة تدعم أجندات حكومة الرئيس كير لكن النقطة الغامضة هو قضية الأرض التي يعتقد اقويليك أنهم يناضلون من أجله، ومع ذلك ينظر العديد من أبناء الشلك أن الرئيس كير يخدم مصالح أبناء قبيلة الدينكا في أعالى النيل على حساب أراضيهم، “الصراع حول مدينة ملكال”.
أقويليك كمنظومة عسكرية وشبه سياسية سيكون أمامه تحدِ كبير في التعامل مع الحاكم الجديد بغض النظر عن شكل تحالفات جديد قد يظهر من أجل الاستقرار او زعزعة أمن الولاية. اقويليك الذي واجه تحديات في التعامل مع الحاكم السابق بضوك أيانق، مما خلق عدم استقرار أمني في عديد من أنحاء الولاية، صراع يخدم مصالحة الأطراف السياسية في جوبا للاستفادة منها واستخدام المواطن لتغذية حرب الجنرالات هو الآن أمام تجربة جديدة بعقلية عسكرية سياسية متواضعة يصعب التكهن بأهداف ما وراء نهر النيل.
مجموعة سلفاكير وبوابة الانتخابات:
في وقت الراهن تعمل مجموعة سلفاكير في ولاية أعالى النيل على توسيع قاعدتها “سياسيا وعسكريا وقبليا” بعد أن تمكن من كسب تأييد العديد من القيادات من معسكر مشار وانضمامهم إليها، في مايوت ولونقشوك وناصر وفشودة، لا سيما مجموعة أقويليك التي تمثل أكبر منظومة عسكرية كانت تشكل تهديدا لسياسات سلفاكير، فكل المعطيات حاليا تشير إلى أن سلفاكير، أعاد جزء كبير من نفوسه في الولاية بإنضمام قيادات التي تطلق على نفسها “شرق النوير ومجموعة اقويليك” وتعويضا على المجهود الكبير حصل مجموعة “شرق النوير” على منصب أمانة الحركة الشعبية هذه السيناريوهات تأرجح كفه سلفاكير على رياك مشار.
استغلال التوازنات القبلية في الولاية، والذي يستخدمها كل مجموعة لمصالحها الخاصة تقوض فرص الحوار الداخلي، خاصة أن محاولة تثبيت القواعد اعتمادا على الثقل القبلي قبل الانتخابات المقبلة هي التي تشغل جميع الأطراف.
تحاول مجموعة كير، الاستفادة من القاعدة الإثنية في ولاية أعالى النيل بكسب تأييدهم لتحقيق مصالحها وأهدافها لإحكام سيطرتها على السلطة، وهي أن المرحلة المقبلة هي مرحلة استقطاب القادة التقليديين من السلاطين والشيوخ “رث الشلك، وملك أزاندي” على سبيل المثال في معسكر سلفاكير، وأما معسكر مشار متمسك هي ايضا بالثقل القبلي. الفكرة العام حاليا هو أن تفكير القيادات في الانتخابات بدلا عن مستقبل البلاد.
ماذا يعني تغيير الحاكم؟
محاولة إصلاح ما أفسده الحرب في ولاية اعالى النيل ثمنها أكبر من مجرد شعارات سياسية ومصالح الأفراد، وهي مهمة صعبة في هذه الايام، فالتعصب السياسي والقبلي في جنوب السودان “ولاية اعالى النيل نموذجا” يطرح العديد من التساؤلات حول الحكمة من تغييرات المستمر لمسؤولي الحكومة، وكما في الواقع الأزمة كما هي دون أي التغيير المرجو، فاتفاقية السلام لم تجلب للمواطن آمال وتطلعات السلام والاستقرار الذي يحتاجها.
يعتقد العديد من مؤيدي الحاكم الجديد، أن بتعيينه يمكن أن يحدث تغيير كبير ويعيد الاستقرار في الولاية وهذا شأنهم، ولا يمكننا مناقشته او الاختلاف حوله مع تجارب سابقة، فالحاكم العسكري الذي من خلفية عسكرية وسياسية وتعليمية متواضعة، تعكس أن معطيات الأزمة في معسكر “مشار” في ولاية أعالى النيل وصل إلى انسداد الأفق في موقع صنع القرار السياسي وانعدام ثقة مشار في قيادات الصف الأول، لكن هل يمكن يصلح العطار ما أفسده الدهر؟ أم قراءتنا هي الخاطئ دوما عن واقع النزاع في الولاية، وتلخيصها أن “صفر مشاكلنا”. وهل الحاكم أوضوك بحنكة المتواضع سياسيا وعسكريا، هو الحل في الوقت الحالي؟ حتى نرفع له القبعات مع أزمة متجددة مركزها جوبا.
تغيير القيادة في كثير من الأحوال لها ايجابياتها وسلبياتها، ولا تعني بضرورة إنها الحل للمشكلة لكن قد يكون لتعميق الأزمة أيضا “نموذج الحكومة الحالية” فقيام معسكر مشار بتغيير الحاكم مؤشر واضح إن نفوسها في الولاية تراجعت وتحاول إعادة سيطرتها بأي ثمن، لكن المعادلة في الوقت الحالي تغيير كثيرا كما كانت عليه في سابق فمجموعة اقويليك تمثل قوة معارضة لسياسات حركة مشار.
يمكن القول إن الحاكم السابق بوضوك أيانق الذي ادخل نفسه في مأزق خطاب رجل المرحلة “الشهيرة”، والذي علقت عليه في مقال بعنوان “الحاكم بضوك أيانق والطلاقة في الحديث .. الفرق بين كلامي وكلامك النفاق”، قد حاول الحاكم بالإمكانيات المتوفرة لديه مثله ومثل القيادات السياسية أو العسكرية الذين حكموا الولاية في الفترات السابقة، الذين نراهن عليهم بالفشل سبقا للاحداث والنتائج (…)، فقد خرج بعد أن أفسد ما يمكن إفساده في الدهر كما فعل من سبقه، لم يتغير معطيات الصراع خلاف استمرار عدم الاستقرار الأمني والصراع القبلي. في جميع الأحوال يظل الحلول أفقية وسطحية بلا حلول جذرية في الوقت الحالي لارتباط الأزمة بـ جنرالات الحرب.
اسلوب الصراع:
يعتمد أسلوب إدارة الصراع في ولاية اعالى النيل على تضارب مصالح الأطراف المتنازعة ومع تحويلها إلى صراع مصالح القبيلة والسلطة تعقد الحلول الممكنة، حيث إن مركز السلطة السياسية والثقل العسكري تعتبر ولاية أعالى النيل نقطة لا يمكن تجاوزها. فما أفسده جنرالات الحرب لسنوات من الحرب الطويل وتشريد ملايين المواطنين وتدمير المنازل، عالقة في ذاكرة سكانها الذين يأملون ليل ونهار، أن ينعم ولاية اعالى النيل بالسلام والاستقرار، فمنذ اندلاع الحرب عام 2013، كل عطار جاء إليهم أفسد لهم دارهم وعمق جراحهم. فهل يصلح العطار بتوقيت غرينيتش؟.