الخوف، الأمل والأفكار الكبيرة – عن رواية الستينيات رسائل إلى سايمون أتير
واجوما نيوز
“اليوم الرابع والعشرين، من الشهر الثامن للسنة العشرين بعد الألفين، من ميلاد سيدنا المسيح”
وبعد
العزيز سايمون اتير،
بوي جون
ــــــــــــــــــــ
الإشتغال روائياً على حقبة الستينات، فعلٌ جميل، و لكن شديد الإرهاق، ويعود ذلك إلى إنها فترة شديدة الغليان من تاريخ العالم: الخوف في كلِّ مكان، والأمل ايضاً يملأ الأفئدة والصدور، والأفكار الكبيرة كلها تقريباً وضعتُ موضع التجريب، وعتاة الأيدولوجيين إرتفعت أصواتهم عالية جداً في الغرب والشرق، و كل ركن من العالم.
بالنسبة لي الفائدة التي جنتها البشرية من أولئك الايدولوجيين، هي أنهم جعلوا للناس في تلك الأيام العصيبة هدفاً، ليعيشوا من أجله وليموتوا في سبيله كذلك.
تلك الحقبة في إفريقيا كانت قمة الإنتعاش الفني و الأدبي، ففي شرق إفريقيا ظهر “تعبان لوليونق” وبقية العقد الفريد مثل الشاعر اليوغندي الفذ “اوكوت بتيك” الذي نشر في تلك الفترة قصيدته الرائعة “أغنيات لوينو”، فيما كانت الخرطوم تشهد إحتدام النقاش حول الهويّة و ظهور “مدرسة الغابة والصحراء”، و في تشكيل التيار الذي سوف يُشار اليه فيما بعد بـ”مدرسة الخرطوم التشكيلية”، وهو مصطلح صكّه أستاذ الفنون الجامايكي “دينس وليامز”. و من رواد تلك المدرسة الفنان العالمي “ابراهيم الصلحي”. اما الفرق الموسيقية فكانت منتشرة في كل انحاء القارة مثل سرب جراد حط على شجرة.
و في السودان بالذات كان الغليان في أوجّه: دكتاتورية عبود، ثورة إكتوبر المجيدة. وتسيّد الساحة من قِبل رجال كبار الهمة؛ على سبيل المثال لا الحصر؛ “سرالختم الخليفة، جوزيف قرنق”.
وهنا يؤرخ لبداية الظهورالابدي لـ”الصادق المهدي” والترابي، وتألق منصور خالد – لكن المهم جداً وجود معلم الأجيال”عبد الخالق محجوب”، وظهور “جبهة الجنوب” و نجاحها كبرجوازية في حفظ مصالح طبقتها.
و جنوباً نجد مجزرة المثقفين الجنوبيين في “واو”، و عودة “دينق نيال” للخرطوم “كاول قيادي جنوبي رفيع يعود إلى الداخل” ليفاوض النظام القائم. و “سريالية دول و جمهوريات المناضلين الجنوبيين” حيث بلغت ذروتها في إعلان “جمهورية نهر سيوي” من قبل “صموئيل أبو جون كباشي” و ظهور “لاقو” على المشهد وتوسّع نشاط “الأنيانيا” في كل الجنوب بصورة رهيبة جداً، و إعتكاف “مورتات” في لندن.
و ما نزال جنوباً في السودان، حيث نجد بداية ظهور الموسيقى الجنوبية الحديثة في مدرسة “رمبيك الثانوية” على أنامل نفر من طلابها، خاصة الزمرة الجميلة التي ضمت “اميل عدلان”،”آرثر محمد سعيد”، “اروبانو الوكيل” و”ريتشارد موكوبي”، و صداقة “شرحبيل احمد” لتلك الثلة و تعلمه فنيات عزف الجيتار منها.
و هنا يجب أن نقول إن صعوبة كبيرة تقف أمام جمع الإرث الفني لإولئك الرواد الافذاذ، والرواد هو مصلح أطلقه عليهم أستاذنا، ديرك الفرد. فمثلما حرق المغول الكتب في بغداد و القوا بعضها في النهر يحدث نفس الشيء لدينا.
فانا اتذكر قبل فترة إتصل أحد الأصدقاء بي ليخبرني أنه يتم حرق أرشيف واحد من أقاليم بلدنا بحجة انها تزاحم وتشغل حيزاً كبيراً من المكان.
و في نهاية العقد ظهر “النميري”، و هو بالفعل خاتمة سيئة لعقد فريد، فعلى يديه هو وحده، نعم هو وحده، سوف يتم إعدام العباقرة؛ عبدالخالق و الشفيع، وجوزيف لاحقاً في العقد التالي، وكذلك سوف يتم حرق الجزيرة “ابا” مهد الثورة المهدية، و سوف يقتل جنوده “وليم أندريا” بشبهة انه من المرتزقة.
وفي الثمانينات سوف يقوم بإعدام الأستاذ محمود محمد طه، ليثبت انه دكتاتور متعطش للدماء، بل هو القانون نفسه بمعنى لا يمكن الإتفاق معه في شيء و الرهان على أنّه لن يمزق العهد طالما لم يعد يخدمه بشيء، وهو ما راه الجنوبيين بعدما كانوا غنوا بإسمه و إستقبلوه بالهتافات في مدنهم فترة السلام الكذوب معهم، والذي مكن له من التفرغ لأعدائه شمالاً، ليرجعوا و يطلقوا عليه اللعنات بعد أن قام بتضخيم العمامة على راسه، و إنتحل شخصية المسلم التقي، رغم إنه قد نُقل عنه القول حول القوانين التي وضعها و طبقها على انها “الشريعة”. فيما راها غيره عكس ذلك حيث اطلقوا عليها اسم قوانين “سبتمبر” وهو الشهر الذي اُعلنت فيه، نُقل عنه القول “دا خازوق مافي زول بقدر يطلعو”.
و تلك الفترة بالمناسبة شهد انتشاراً رهيباً لموسيقي “الرمبا” بعدما قطعت المحيط من البرازيل الى أنقولا، و نواة هذا الموسيقى التي بدأت في جنة الكاريبي التي تُسمى “كوبا” ، هي في الاصل “حنين و ذكريات و عذابات السود الذين اُخذوا قسراً إلى هناك قبل قرون ليعملوا كعبيد في حقول القصب و القطن”.
وهنا نقف لنرى أن فرقة “أو.كي. باند” وهي فرقة أسّسها عازف الجيتار و الموسيقي الخالد “فرانكو لومبا”، وقد أخذت اسمها من “الحانة” التي كانت الفرقة تعزف فيها، قد تسيدت الأسماع في كل القارة بلا منازع.
و هذه هي نفسها فترة صعود الدكتاتور الرهيب “موبوتو سيسكو” السلطة، على جثة القائد المحبوب “باترس لوممبا” و أحلام ليس للكنغوليين وحدهم، بل الأفارقة جميعاً بالحرية، لكن “لوممبا” ليس وحده مَنْ سوف يقتله أعداءه، ففي الولايات المتحدة سوف يُغتال “جون كنيدي”…و سوف يغتال أيضاً، “مارتن لوثر كينغ” و”مالكوم أكس”، لذلك فلا شيء سوف يوقف موبوتو من المضي في طريقه على جثث “لوممبا” و أحلام الكنغوليين حتى النهاية.
و “موبوتو” دكتاتور أسطوري يشبه الملوك الذين يمكن أن تجدهم في قصص “ألف ليلة وليلة”..أو”ملوك ماوراء النهر و أباطرة المغول في الهند” الذين زارهم “إبن بطوطة”. فهو قد غير إسم البلد الى “زائير” و رسم لنفسه بعناية فائقة “هيئة” القائد الجبّار، لكن المتمسك بإرث شعبه، حيث واظب على إرتداء قبعة من جلد “النمر” اينما حلَّ، لكن نمط حياته الشديدة الترف جعلت منه مضرب الأمثال حيث قيل إن الأواني المنزلية في منزله كانت جميعها من الذهب الخالص، فيما كانت النمور المروّضة تتجوّل بحريّة مثل القطط الأليفة في ردهاتِ و دهاليزِ قصورهِ الفاخرةِ. و لا عجب في ذلك فبين ألقابه الكثيرة التي أطلقها على نفسه، و منها؛ “أب الأمة”، “المرشد”، “المسيح”، “رئيس الشمس”، كان لقب “النمر” هو الأثير إلى قلبه.
وفي إثيوبيا كانت الحرب قد اندلعت من اجل استقلال ارتريا، وفي الوقت الذي كان فيه الامبراطور “هيلا سيلاسي” في قصره الامبراطوري في “اديس ابابا” لا يمل الكلام ليس عن وحدة اثيوبيا فقط و انما عن “وحدة افريقيا” كلها.. كانت اسوده وهو الذي كان يُعتبر بطريقة ما “اسداً” ايضاً.. حيث اطلق على نفسه بكل فخر لقب “الأسد القاهر من سبط يهوذا المختار من الله ملك اثيوبيا”..وهو الادعاء الذي صدقه الكثير من السود في الخارج سيما في جمايكا فحسبوه الهاً تأكل اللحم حد التخمة فيما الشعب الاثيوبي يعاني من سوء التغذية و النظام الاقطاعي مسلطٌ على عنقه مثل محراث ابدي على عنق ثور.
يكمن جمال الكتابة حول تلك الحقبة في انها خصبة و غنية جداً بالاحداث، لدرجة أن المرء يتمنى لو كان بمقدوره العودة بعجلة الزمن الى الوراء و العيش فيها .. في الوقت الذي يكمن فيه الصعوبة الحقيقية في كيفية السرد أي في الاجابة عن السؤال “كيف تحكي؟..” وليس “ماذا تحكي؟”.. لأن الرواية كـ”جنس سردي” لو استبعدنا جيمع الشروط اللازم توفرها فيها، يبقى اهم عوامل نجاحها هو الاجابة بشكل مناسب سردياً عن السؤال “كيف تحكي؟..”،وهذه في مرات كثيرة اهم اهم من “ماذا تحكي؟..” و هذا بافتراض أن جميع القصص صالحة كمواضيع للمعالجة الروائية.
وذلك يتطلب المقدرة التامة على إجادة “بناء فضاء للرواية”.. وهذا امر مهم لدرجة أن روائي كبير مثل “امبرتو ايكو” يقول ما معناه ان عملية “بناء فضاء معماري للرواية تأخذ منه مرات نصف فترة كتابة العمل” راجع كتابه “حاشية على إسم الوردة” و لذلك الفضاء شقين مادي يتعلق باشياء مثل ماذا يلبس الناس .. ماذا يأكلون .. كيف تبدو منازلهم .. حدائقهم و اسواقهم .. ومعنوي يتعلق بمعتقداتهم .. نظرتهم الى الحياة .. طريقتهم في الكلام .. والمهم جداً كيفية استخدامهم للغة.
و اللغة مهمة جداً لو اخذنا في الاعتبار انها الاداة الوحيدة في يد الكاتب..حتى لكأنها “الطوب و المونة و الاسمنت” جميعاً .. وهي مهمة من ناحية انها التي تحقق ذلك الفضاء الذي اسلفنا الاشارة اليه..مثلاً و أنت تقرأ رواية “آخر السلاطين” لمنصور الصويم، أو “شوق الدرويش” لحمور زيادة، تشعر أنك تعيش في زمن المهدية .. ولو لا أن الكاتبين قد تمكنا من اللغة و عرفا كيف يطوعانها بالشكل الصحيح كان الشعور ليكون مختلفاً .. ربما سوف يكون أننا نقرأ “رواية عن المهدية” بدلاً عن أننا “نعيش فترة المهدية” عبر الراوية … وانا لا اعرف حقيقةً كيف اشرح هذه النقطة.
الشيء الثاني الذي أرى من المفيد إثارة القليل من النقاش حوله، يتعلق بالسؤال حول؛
هل من الضروري أن يكون للكاتب في رأسه وهو يكتب، قاريء مفترض يتوجه إليه؟!
في رأي، القاريء المفترض، مهم لأنه يعمل كقبطانٍ للكاتبِ، و هو يمخر عباب الكتابة.
صحيح هنالك من الكُتاب مَنْ يقولون إنهم يكتبون لأنفسهم مثل موجة الكتابة التي تُسمى بالكتابة العميقة في السودان – راجع مقال يدجوك اقويت حول ذلك.
قبل أن أترك هذه النقطة معلّقة هكذا للنقاش، أَودُّ مشاركتك ما قرأته قبل فترة، أنظر هذا هو المارد الجبار جداً “كارلوس زافون” يكتب قائلاً ما معناه:
– “أن الاشياء الوحيدة التي يكتبها الروائي لنفسه هي قائمة إحتياجاته الشخصية فقط مثل الطعام و الملابس الخ”.
وتلك المسألة أي قضية القاريء المفترض تقودني إلى قضية ظلت تشغلني لفترة، وهي:
– هل على الكاتب أن يقلق دائماً حول كيف سوف يتقبّل المتلقي عمله؟
– وهل يجب عليه أخذ جميع الملاحظات سيما تلك العنيفة على محمل الجد؟!
لأن قراءة الرواية أيضاً فن ربما تتطلّب الكثير من الجهد حتى يرتقي القاريء إلى مستوى النص.
هنا أتذّكرُ في الرسائل المتبادلة بين الروائي الامريكي “بول أوستر” و الجنوب إفريقي “جون كوتزي” – أنّ الاخير إشتكى من امراة وصفته بـ”معاداة” السامية، لان واحدة من شخصيات إحدى رواياته تكره اليهود!.
كان رد “بول اوستر” على “كوتزي”:
– “أن يلقي على الفور بأقوال المراة في سلة المهملات، وأن لا يعيرها أدنى إهتمام.
“لأن اول قاعدة لقراءة الرواية هي أن ما تقوله شخصيات الرواية ليست اقوال مؤلف الرواية”، أو هكذا يرى “أوستر”.
دعك من كل “الجوطة” الكثيرة في الأسطر السابقة جميعها.
ولنتكلم قليلاً عما يشغلني حقاً، وهو كيف يستطيع المرء الكتابة في زحمة الحياة؟
فدائماً هنالك شيءٌ ناقص، عندما تجد مكان للكتابة بـ”مزاج” لا تجد الوقت الكافي، وعندما تجد الوقت لا تجد المكان المناسب.وأنا من الذين يعتقدون في راي “أروهان باموق” الذي يعتقد؛
– “أن الكتابة يجب أن تكون في مكان مختلف عن مكان النوم و المعيشة، لإن محاصرة الإنسان بكل ذلك الجو يقتل الخيال.”
وهنا أتذكّرُ أن صديقاً ماكراً قال لي ذات مرة:
– “إن الفراش يصلح لغرضين فقط”- ذكر لي “النوم” و صمت عن الغرض الآخر، فضحكتُ.
أخيراً، يشغلني بل يؤرقني أن مجتمعنا حتى الان لا يعترف بشيء إسمه “كاتب”.. من حقه الحصول على البيئة الملائمة، وأبسط شيء مكانٌ هاديء ليمارس فيه شغفه بالصورة المريحة.
خذ هذا المثال في المنزل قد تسمع أفراد الأسرة يقولون:
– “ما تعملو إزعاج، للدكتور، نزّلو أصواتكم، هو مشغول”، لكن من المستحيل أن تسمع مَنْ يقول:
– “ما تزعجوا فلان هو قاعد يكتب”.
.
تحياتي و تشكراتي،
من مكانٍ ما، بـ”غرب أعالي النيل”
المخلص دوماً: بوي جون.